تزامنت الشرارة الأولى لتظاهرات البصرة، في تموز مع ارتفاع درجات الحرارة، وأخذت تلك المظاهرات بالتصاعد بشكل تدريجي، مع ارتفاع منسوب الملوحة في شط العرب وتلوثه بالمواد الكيماوية التي أطلقتها إيران، وانقطاع الكهرباء وسوء الخدمات وتفشي البطالة وانتشار الأمراض، وتغوّل المليشيات، وسيطرتها على دوائر الحكومة المحلية والشارع البصري، ما جعل الأحداث تتطور بشكل غير مسبوق، حيث اقتحم متظاهرون، الجمعة الماضية، القنصلية الإيرانية وأضرموا النيران فيها بعد أنباء تحدثت عن انسحاب قوات الأمن من شوارع البصرة. حيث إن أكثر من 20 ألف متظاهر خرجوا الجمعة في شوارع المدينة، على خلفية مطالب حياتية وخدمية أسفرت عن سقوط 9 قتلى.
يأتي هذا التطور بعد يوم من إضرام بعض الناس النار في أغلب مقار الأحزاب والتيارات السياسية الحاكمة فضلاً عن مبنى ديوان المحافظة ومجلسها، ومن ضمن الأحزاب التي تم حرق مقراتها، مقرات أحزاب ومليشيات عراقية موالية لإيران؛ أبرزها مقر حركة إرادة ومقر عصائب أهل الحق وحركة النجباء وأنصار الله، كما أحرق المتظاهرون أيضاً مقرات حزب الدعوة وحزب الفضيلة والمجلس الأعلى ومكتب منظمة بدر، ومقر كتائب حزب الله ومقر سرايا الخراساني، إضافة إلى دار استراحة المحافظ، ومكتب النائب فالح الخزعلي وحنان الفتلاوي.
إن انتفاضة الجنوب ليست بنت اليوم أو الأيام الفائتة بل هي استمرار لانتفاضات الشعب ضد الفاسدين والفاشلين منذ الاحتلال وحتى اليوم، ولكن سوء الأوضاع وخروج الأمر عن حده؛ أجج الغضب من جديد وأطلق شرارتها، ضد أحزاب المرجعية، وهي تعد امتدادًا لحركة المقاطعة الكبيرة للانتخابات الأخيرة التي لم تقدرها السلطة حق قدرها، بل كابرت وأعلنت نسبة مشاركة غير حقيقية من أجل أن يستمر خداع الشعب حسب ظنها، فوقعت في شر أعمالها وعجّلت في قدح شرارة الانتفاضة؛ فالشباب المنتفض ضد أحزاب المرجعية والذي عمل طوال الأسابيع الماضية على التحشيد وحض الجماهير على الانتفاضة هو عينه الذي عمل بجهد كبير طوال الأشهر السابقة للانتخابات من أجل مقاطعتها وكشف مهزلتها وفضح المستفيدين منها فنجح في الأولى وهو مصمم حتى الرمق الأخير على كسب الثانية.
من الملاحظات التي سجلت على هذه التظاهرات، الخوفُ الشديد الذي بدا واضحًا على تصريحات أكثر من مسؤول حكومي أو مليشياوي، وتجدهم يبذلون جهدهم للتملق للعشائر المنتفضة، يعود سبب ذلك إلى أن التظاهرات الحاليّة في غالبيتها من أبناء الشيعة، وهذا يشكل خطرًا كبيرًا على السلطة الحاكمة والمليشيات الموجودة حاليًّا؛ ذلك لأنها تعتبر هذه الطائفية الحاضنة الشعبية لها، وتعتبر شبابها الرصيد البشري لمغامراتهم العسكرية في العراق وخارج العراق، من خلال استغلال فقرهم لتجنيد أبنائهم والزج بهم في الحروب، وبالتالي فإن المكون الذي يستطيع أن يؤثر بشدة على أركان النظام وسلطة المليشيات، هم أبناء المكون الشيعي. لم يشمل الإحساس بالخطر فقط رموز السلطة والمليشيات ومن يمشي في ركبهما، بل شمل المرجعيات الدينية التي كانت تستغفل عامة الشيعة وحبهم للدين، لتوجيههم لخدمة السلطة ومآربها المشبوهة.
ولكن يبقى الخوف قائماً من السيناريو القادم الذي ينتظر البصرة، في ظلِّ استخدام مُفرِط للقوّة، من قبل الجيش والمليشيات، والذي ذهب ضحية هذا العمل الهمّجي شباب أعزل يطالب بأبسط حقوقه الشرعية، تماماً كما كان شباب الأنبار والموصل وديالى والحويجة وسامراء وبغداد، في تظاهراتهم عام 2013، وتم قتل وقمع المتظاهرين من قبل نوري المالكي شخصياً، بعد وصفهم بأبشع وأقذر الأوصاف الطائفية )بيننا وبينكم بحر من الدم، وأنتم خندق يزيد ونحن خندق الحسين، وهذه فقاعة نتنة، أنهوا قبل أن تُنهوا) وغيرها من التصريحات القميئة، وكانت النتيجة معروفة؛ قيامه بتسليم مدن التظاهرات إلى تنظيم الدولة الذي فعل ما فعل من إجرام بحقهم.
واليوم ربما سيتكرّر السيناريو في البصرة من حصول مجزرة وضياع مدن، وهذه المرّة سيكون لقمة سائغة لمجاميع مسلحة متنوعة؛ مليشيات طائفية وغيرها، تقوم اليوم بحرق المؤسسات والدوائر الرسمية وقتل المتظاهرين، وحرق مقرات الأحزاب لإيجاد تبريرات لتدخّل مليشياتها، وإفشال هذه التظاهرات وإخراجها من مسار التظاهر السلمي إلى مسار التظاهر اللاسلمي التخريبي، من حرق الدوائر والمؤسسات الحكومية، وخطف واغتيال الناشطين، وحرق آبار النفط وطرد شركات النفط الأجنبية، لأن ما نراه في تظاهرات البصرة وانحرافها عن مسارها الطبيعي في الحصول على مطالبها الشرعية، يؤكد اختراق التظاهرات، واندساس بعض الأحزاب التي تمتلك مليشيات لتنفيذ أجندة إيرانية وسيناريو إيراني واضح بعد أن انكشف حقدها وملفها الإجرامي، وهو إشعال حرب شيعية - شيعية في جنوب العراق، وإيجاد تبريرات التدخل الإيراني في العراق، وضرورة إعادة الأمن والاستقرار له حسب زعمه وتبريره وبموافقة ومباركة أمريكا التي تجاهلت احتجاجات ومظاهرات الفقراء والمسحوقين فيما عدا بيان خجول من خارجيتها يطالب المتظاهرين بسلمية المظاهرات وأسفها على وقوع ضحايا.
إن أمريكا بموقفها هذا تثبت مرة أخرى بأنها لا تهتم بالفقر المنتشر في العراق ولا دخل لها بانعدام الخدمات المقدمة للناس ولا بالتدخل الإيراني في شؤون العراق الداخلية ولا حتى بالدولة التي أصبحت فاشلة بفعل سياستها وبقصد منها، ولكن يهمها وجود حكومة ضعيفة تستجيب لمطالبها، وتحقق التوازن المطلوب بين مصالحها ومصالح إيران، وأنها ليست على عجلة من أمرها حتى في دفع إيران إلى خارج الحدود، ولذلك نراها قد عتمت إعلاميا على المظاهرات والاحتجاجات وفرضت طوقا حديديا عليها وسكتت عن قطع الإنترنت، واستخدام العنف المفرط تجاه المتظاهرين المطالبين بحقهم الطبيعي، لأنها تعلم علم اليقين بأن انتفاضات العراق تعني فشل مشروعها هناك الذي جاء تحت لافتة تحقيق الحرية للشعب العراقي، وتطبيق الديمقراطية الزائفة فيه، ولذلك فهي لا يهمها توفير الماء أو الكهرباء للشعب العراقي ولا توفير فرص العمل في القطاع العام أو الخاص ولا تعطيل الزراعة والصناعة ولا خراب البيوت وتهجير السكان وانعدام الأمن. إنها تعيد التجربة نفسها التي خاضتها مع حكومة المالكي الفاشلة رغم اختلاف الرؤساء الداخلين أو الخارجين من البيت الأبيض.
لقد زعمت أمريكا أنّها ستجعل من بلادنا أنموذجاً يحتذى به فإذا هي تعود بنا القهقرى عقوداً موغلة في الظلم والفوضى وانعدام الأمن على أيدي من فرضتهم حكاماً أو عمالاً يأتمرون بأمرها ويسعون ليل نهار لتحقيق مآربها الخطيرة الخبيثة في نهب خيراتنا وإبعادنا عن إسلامنا...
يا أهل العراق! إن حكومة كهذه فرضها كافر أمريكي محتل لن تفعل بعباد الله تعالى ما يرضيه؛ فقد عمّ شرُّها وطمّ، وباتت رائحة فسادها وإفسادها لكل مرفق تزكم الأنوف؛ فمن انهيارات أمنية وتفجيرات يومية واغتيالات وخطف للأبرياء بحجة وبغير حجة، إلى نهب فاحش للمال العام دون حياء أو وجل، وانحدار ما يقرب من ثلث الشعب تحت خط الفقر في بلد لم يحظَ بمعشار اقتصاده أكثر بلدان العالم، والقائمة تطول، ثمَّ بعد هذا نجد مَن لا حياء له يطالب بولايات جديدة وكأن زمانه العصر الذهبي، لكن صدق فيهم وفي أمثالهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ».
بقلم: الأستاذ علي البدري
رأيك في الموضوع