أعلن الناطق باسم وزارة الداخلية في تونس لوكالة "تونس أفريقيا للأنباء"أن القوات الأمنية اعتقلت حوالي 330 شخصًا تورطوا في أعمال عنف ليل الأربعاء 10/01/2018، وذلك في تواصل للاحتجاجات التي شهدتها مدن عدة في تونس منذ الزيادات الأخيرة في الأسعار.وقال شهود لرويترزإن الجيش انتشر في مدينة "تالة" بعد انسحاب كلي لقوات الأمن من المدينة.
إلا أن المثير للدهشة أن الحكومة في تونس كانت قد نفت قبل ذلك وجود أي علاقة بين هذه الأحداث والاحتجاجات على ارتفاع الأسعار وتفشي البطالة التي شهدتها البلاد الأسبوع الماضي. وهو موقف يدل على أن هذه الحكومة لا تزال مصرة على إنكار الواقع واتباع سياسة دس الرؤوس في الرمال في التعامل مع الاحتجاجات الأخيرة، فالأحداث التي تناقلتها وكالات الأنباء عن تونس حدث مثلها في الكثير من البلدان التي فُرضت فيها بكل صرامة شروط صندوق النقد الدولي، لذلك فهي لم تفاجئ العارفين بسياسة هذا البنك الاستعماري وآثاره على الدول والشعوب.
لقد تعود الناس من الحكومة ظهور وزرائها والخبراء التابعين لها على مختلف وسائل الإعلام ليؤكدوا للناس صعوبة الأوضاع الاقتصادية من ازدياد حجم المديونية والعجز في الموازنة العامة والعجز في الميزان التجاري وغيرها من المؤشرات السلبية، لإقناعهم بالقبول بما يعتزمون القيام به من قرارات قاسية من زيادة في الأسعار ورفع للضرائب، لكن ما يتجنبون الحديث فيه هو الأسباب الحقيقية التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع من العجز التام. وبالرغم من كل الدعوات الصادرة من العديد من الخبراء المخلصين إلى ضرورة مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الموقع منذ سنة 1995، وإلى التحذير من السير في برنامج خصخصة المؤسسات العمومية الذي بدأ تطبيقه سنة 1986 مع برنامج الإصلاحات الهيكلية التابع لصندوق النقد الدولي، إلا أن الحكومة لا تزال ترفض حتى القيام بعملية تقييم لهذه السياسة. وذلك لسبب بسيط هو أن هذه السياسات تملى على حكام تونس لتنفيذها طوعا أو كرها وليست اختيارا. لذلك كان من نتائجها الكارثية إفلاس آلاف الشركات المحلية نتيجة المنافسة غير المتكافئة مع البضائع الأوروبية.
فقدنشرت "وكالة النهوض بالصناعة" في تقريرها الصادر في حزيران/يونيو 2017 أن الفترة المتراوحة بين سنة 2005 – 2015 شهدت إفلاس 4319 شركة، وخسارة 250 ألف موطن شغل. كما أفادت دراسة قام بها "البنك الدولي" بالتعاون مع "المعهد الوطني للإحصاء" في عام 2012، أن تونس فقدت 55٪ من نسيجها الصناعي من شركاتها الصغرى والمتوسطة منذ تطبيق اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وللتحقق من سياسة الانتحار الصناعي المتبعة في تونس، يكفي زيارة المناطق الصناعية التي أصبحت مقابر حقيقية. ولا تزال الشركات التونسية الخاصة والعمومية تُغلق الواحدة تلو الأخرى وذلك لغياب الندية التنافسية وتنصّل الحكومات المتعاقبة من انتهاج سياسة حمائية للإنتاج المحلي. من ناحية أخرى قام "المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية" بالتعاون مع "جمعية استشراف وتنمية" بدراسة في 2014 أثبت أن التفكيك الجمركي وإعفاء المنتجات الصناعية الأوروبية الموردة تسببت في خسارة مباشرة لخزينة الدولة التونسية تقدر ما بين 19 و23 مليار دينار.
فإذا أضفنا إلى ذلك ما نتج عن تطبيق سياسة الخصخصة التي أوصى بها برنامج الإصلاحات الهيكلية التابع لصندوق النقد الدولي من التفريط في العديد من المؤسسات الرابحة والمنتجة إلى الأجانب أو إلى المقربين من النظام، لم يبق هناك من داع للاستغراب حين نقول إن الدولة في تونس فقدت أي موارد ذاتية لتمويل الميزانية، ولم يبق لها سوى الجباية أو الديون المشروطة.
ولا تزال هذه الحكومة سائرة على النهج نفسه في الخضوع والعمالة لصندوق النقد الدولي رغم كل النتائج الصادمة، فهي تعتزم وقف الانتدابات في الوظيفة العمومية رغم مئات الآلاف من الشباب الباحث عن العمل والذي يعاني من الفقر والبطالة والتهميش، وتعتزم أيضا تسريح عشرات الآلاف من الموظفين العموميين من أجل التقليص من كتلة الأجور استجابة لشروط الصندوق للحصول على الدفعة الأخيرة من قرض سابق، وقد تبين في الفترة الأخيرة أن كثرة الحديث الدائر عن المشاكل والخسائر التي تعاني منها شركة الخطوط الجوية التونسية وشركة الكهرباء والغاز إنما هو إهمال متعمد وتمهيد للتفريط فيهما وخصخصتهما سيرا على السياسة نفسها.
إن نفي الحكومة لوجود أي علاقة للاحتجاجات بالزيادات الأخيرة في الأسعار والوقود والضرائب، هو دليل على أنها لا تريد الاعتراف بمسئوليتها السياسية عن تردي الأوضاع الإنسانية والاقتصادية بالبلاد نتيجة اتباعها لسياسات استعمارية دمرت الاقتصاد، وحرمت مئات الآلاف من الناس من مواطن عمل ودفعت بالآلاف من الشباب للهجرة أو الموت غرقا على أبواب أوروبا الاستعمارية، فهي أشبه بحكومة احتلال في بلد محتل. وإن البرلمان الذي صادق على كل هذه القوانين الجائرة يشترك معها في كل جرائمها وفي التنكيل بالأمة وإذلالها في لقمة عيشها.
إن أهم ما تحتاجه الأمة الإسلامية في وقتنا الحاضر هو النخب الواعية المسئولة التي توجه الناس إلى أن فساد النظام السياسي وعمالته للغرب الرأسمالي هو سبب الأزمة التي تعاني منها الأمة الإسلامية، وإن النهضة المرجوة لن تتحقق إلا بالتحرر من الاستعمار بكافة أشكاله وإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة، فهي الدولة الوحيدة التي تقوم على أساس عقيدة الأمة وأنظمتها في الحكم والاقتصاد، وتحفظ كيانها وثقافتها وحضارتها من أطماع أعدائها.
بقلم: د. محمد مقيديش
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع