إنه من المفهوم بداهة أن العلاقة بين أمريكا وروسيا في الشأن السوري ليست علاقة بين عدوين متصارعين أو ندين متنافسين، بل هي علاقة استخدام وتسخير من قبل أمريكا لروسيا حتى تتمكن أمريكا من تنفيذ حلها السياسي والذي قبلته روسيا وتعمل على تنفيذه. ويقتضي بقاء نظام الطاغوت العلماني التابع لأمريكا ومؤسساته وخاصة الأمنية الإجرامية، ووقف إطلاق النار تمهيدا لوقف الثورة، وجعل المعارضة العميلة تفاوض النظام وتتفق معه على تشكيل حكومة مشتركة، وتأجيل مصير عميلها بشار أسد إلى النهاية. ونرى دائما أن أمريكا هي التي تبادر بطرح الخطط وتتصل بروسيا لتنفيذها، فظهر للجميع أن روسيا هي المتلقي والمنفذ للمبادرات الأمريكية، ليثبت ذلك أنها مُسخرة ومستخدمة من قبل أمريكا.
ولكن روسيا تسعى لأن تكون لها كلمة حتى تصبح على مستوى أمريكا في التأثير كما تتوهم، فادّعى بوتين عقب إعلانه انسحاب روسيا من سوريا يوم 14/3/2016 أن "روسيا أثبتت في سوريا دورها القيادي بلا منازع وتحليها بالإرادة والمسؤولية في مكافحة (الإرهاب) الدولي..." ولن يصبح لها ذلك، وهي لا تملك قوى عميلة هناك، فتبقى تسعى عن طريق تقديم الخدمات لأمريكا لتحصل على شيء من هذا القبيل أو غيره. وقد أعلنت روسيا انسحابها من سوريا بعدما رأت أنه ليس لها ناقة ولا جمل وهي تقدم التضحيات مجانا لأمريكا والخسائر المادية كبيرة تثقل كاهل اقتصادها المتضعضع. وبعد 11 شهرا تزداد الأعباء عليها وقد دخلت في مأزق كما دخلت أمريكا في مأزق والتي تستعجل الأمور لتحقيق إنجازات قبل أن يغادر أوباما البيت الأبيض والانتخابات الأمريكية على الأبواب والجمهوريون يستخدمون ورقة فشل إدارة أوباما في سوريا لتعزيز مواقعهم في الانتخابات. فلهذه الاعتبارات تريد روسيا حل الوضع في سوريا بأسرع ما يكون كما تريد أمريكا. فتكلموزير خارجيتها لافروف يوم 2/9/2016 هاتفيا مع نظيره الأمريكي كيري "لبحث آفاق التعاون بين موسكو وواشنطن لمكافحة المجموعات الإرهابية المتحصنة في سوريا" بحسب بيان للخارجية الروسية.
وجاء في البيان أن "لافروف لفت الانتباه مجددا إلى ضرورة الفصل بأسرع ما يمكن بين فصائل المعارضة السورية المرتبطة بالولايات المتحدة وبين من وصفهم بالإرهابيين الذين يستخدمونها كغطاء ويواصلون عمليات هجومية مكثفة في الأراضي التي يسيطرون عليها". أي أن روسيا ستضرب الفصائل التي تقرر أمريكا ضربها فتنفذ أوامرها.
وهذا يدل على أن الثورة السورية قد أعجزت الطرفين وهما يريدان أن يخرجا من مأزقهما بضرب الثوار الرافضين للحل السياسي الأمريكي والذين يطلق عليهم المجموعات الإرهابية، أو خداعهم بتفريغهم من المناطق أو نزع أسلحتهم. فقال ريابكوف مساعد وزير الخارجية الروسي إن "بلاده والولايات المتحدة على بعد خطوات من التوصل لاتفاق وصفه بالكبير بشأن مدينة حلب شمالي سوريا". فيريدون أن يحققوا نجاحا بعد نجاح الثوار في كسر الحصار عن حلب، وجعل الثوار يفوضون المعارضة العميلة بدخول المفاوضات مع النظام. فالأمريكان يطبخون طبخة جديدة! ولهذا كشف مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا دي ميستورا يوم 1/9/2016 عن إعداد "مبادرة سياسية" يعتزم طرحها أثناء الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقال "إن مسؤولين عسكريين وأمنيين ودبلوماسيين رفيعي المستوى من الولايات المتحدة وروسيا استأنفوا المحادثات في جنيف أمس (31/8/2016) لإعطاء "قوة دفع جديدة وشديدة لوقف الأعمال القتالية". وذكر الرئيس الروسي بوتين يوم 2/9/2016: "نتقدم شيئاً فشيئاً في الاتجاه الصحيح ولا أستبعد أن نتفق قريباً على أمر ما ونعلنه للمجموعة الدولية". مما يدل على أن أمريكا تطبخ طبخة جديدة وهي بمثابة تآمر جديد على الثورة لوقفها.
وجاء إعلان دي ميستورا يوم 4/9/2016 أن "الطرفين الأمريكي والروسي يتوصلان إلى اتفاق قريب يتضمن "نزع سلاح الثوار في حلب". ليكشف عن ماهية التآمر، وأيده المندوب الأمريكي لسوريا مايكل راتني حيث بعث برسالة إلى المعارضة بهذا الخصوص وأن الاتفاق سيشمل وقف القتال في سوريا كلها. فهذا هو التآمر بعينه: نزع سلاح الثوار! ويبدأ من حلب، فإذا نجحت أمريكا في ذلك ستعمل على تطبيقه في مناطق أخرى، كما يجري إفراغ المناطق من الثوار مثلما حصل في داريا، ومن ثم محاصرة الثوار في مناطق أخرى ليتكرر السيناريو حتى تنزع كل المناطق من أيدي الثوار وتنزع أسلحتهم، ولا يبقى السلاح إلا بيد النظام العلماني يقتل ويبطش حتى تجبر أمريكا أهل سوريا على الاستسلام له والتخلي عن فكرة إسقاطه وإقامة حكم الإسلام.
ومن جانب آخر تواصل تركيا تنفيذ الخطة الأمريكية بالسيطرة على المناطق المجاورة لحدودها بذريعة إخراج تنظيم الدولة، وتُدخل أتباع أمريكا من الجيش الحر إليها الموافقين على وقف القتال والدخول في مفاوضات مع النظام.
فتعمل أمريكا على هذه الخطوط: تفريغ المناطق من الثوار، نزع السلاح في حلب ومن ثم تليها أخواتها، واستخدام تركيا للسيطرة على مناطق وتركيز أتباع أمريكا فيها.
وكان من المفروض أن يتقدم الثوار بعد فك الحصار عن حلب، ولكن ظهر أن المعارك فيها تراوح مكانها إلى حد كبير! مما يدل على أن هناك ضغوطات عليهم حتى لا يتقدموا أثناء إعداد الطبخة، بل إن مما يلفت النظر أن النظام قد استعاد يوم الأحد الماضي بعض المناطق التي خسرها في حلب، وعاد الحصار من جديد!! بينما يتقدم الثوار في ريف حماة الشمالي ويسيطروا على مدينتي صوران وطيبة الإمام، فضلا عن تدمير غرفة عمليات تابعة لقوات النظام في قاعدة جبل زين العابدين العسكرية شمال حماة وسط سوريا. لأنه يراد أن يحقق الثوار انتصارات معينة محدودة ليستعد بعدها ممثلو المعارضة للدخول في المفاوضات. وما يؤكد ذلك تقديم ممثلي معارضة الرياض يوم 3/9/2016 ورقة كمبادرة للتفاوض بعد مباحثات في الرياض تحت إشراف عملاء أمريكا لطرحها على مجموعة دول الاتصال بشأن سوريا في لندن يوم 14/9/2016، فقال رئيس وفد المعارضة الزعبي (للجزيرة): "إن هذه الورقة ليست جديدة، ولكنها أخذت شكلا تفصيليا عن الورقة الأولى التي تم الإعلان عنها مسبقا" وادّعى أنها "من إعداد مجموعة من الخبراء السوريين، وقد تمت استشارة الثوار في الداخل وكذلك أطياف السياسة ومكونات الشعب السوري، وعدد كبير من منظمات المجتمع المدني". فهو يعلن أنها لم تتضمن أي شيء جديد! سوى أنها تجيء في ظل التحرك الأمريكي ومشاوراته مع روسيا لتنفيذ خطة جديدة، وفي ظل نجاحات للثوار ليقال أنهم يفاوضون من مركز القوة أو لفرض وقف إطلاق النار عليهم! واعترف الزعبي بتلاعب أمريكا والأمم المتحدة بهم لحساب النظام فأضاف: "كان يفترض أن نقدم هذه الورقة في مفاوضات جنيف، ولكن فوجئنا بالتصعيد العسكري للنظام والقوات الإيرانية في ريف حلب الجنوبي، مما دفع الولايات المتحدة والمبعوث الأممي إلى سوريا دي ميستورا للقول إن النظام يتقدم، وعليكم أن تتنازلوا، وتكرر نفس الأمر في الجولة الثالثة للمفاوضات عندما نسق النظام مع داعش لاستعادة السيطرة على تدمر، وعندها قال دي ميستورا من الجولة الأولى أعتقد أن النظام بات أقوى من الأول... وحتى لو استطاع الثوار السيطرة على كامل سوريا باستثناء قصر بشار أسد فإن الولايات المتحدة والأمم المتحدة لن يعتبروا ذلك ورقة ضغط ولن يعترفوا به". فهم يدركون الحقيقة ولكنهم أبوا إلا أن يتبعوا الشيطان أمريكا الذي يخادعهم وهم يعلمون وينتظرون منه الحل! فما أخزى هذه المعارضة ومن تبعها!
وقد لاحظنا أن أوروبا مغتاظة من تهميش أمريكا لها في سوريا، فتحركت فرنسا نيابة عنها لتثبت نفسها، فدعا الرئيس الفرنسي أولاند إلى "هدنة فورية" لا سيما في حلب حيث "تجري كارثة إنسانية واسعة النطاق". وانتقد الدور الروسي لافتاً إلى أن "موسكو تقدّم منذ قرابة سنة خبراتها لنظام بشار الأسد الذي يستخدم هذا الدعم لقصف المعارضة لكن أيضاً السكان المدنيين، ما يصب في مصلحة المتطرفين من كل الجهات". وأعلن أولاند أن "باريس تعمل من أجل استصدار مشروع قرار في مجلس الأمن على خلفية تقرير الأمم المتحدة بخصوص استخدام أسلحة كيماوية بعد العام 2013 وتحميل النظام السوري مسؤولية ذلك". وقال إن "هذه الجرائم لا يمكن أن تبقى من دون عقاب". وكل ذلك لتضغط أوروبا على أمريكا لإشراكها في الشأن السوري، وفي هذا السبيل تقوم فرنسا بالتشويش على أمريكا، فتعلن أنها ستتقدم بمشروع قرار إلى مجلس الأمن يحمّل النظام السوري العميل لأمريكا استخدام الأسلحة الكيماوية بعد الاتفاق الذي تم لنزع السلاح الكيميائي لدى النظام بعدما استخدمه في الغوطة عام 2013. ويظهر أن ضغط أوروبا ضعيف، لأنها ليست لها قوى تذكر على الأرض، وأمريكا لا تريد أن تستخدم أوروبا، لأنها تدرك أن أوروبا لها عراقة في المنطقة، وعندما تعمل هناك ستعمل لصالحها، وليس لصالح أمريكا، فهي ليست كروسيا.
وكل هذه المؤامرات التي تحوكها أمريكا بنزع السلاح في حلب أولا، ونزع الثوار من مناطقهم مقدمة لوقف الثورة وتثبيت النظام العلماني الكافر مع استخدامها لتركيا وروسيا في تنفيذ خططها قابلة للسقوط والفشل، وذلك برفض الثوار لها والتوجه نحو دمشق للسيطرة على قصر بشار أسد. فليصدقوا الله حتى يصدقهم وينصرهم ويفشل كيد الشيطان أمريكا. ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾.
رأيك في الموضوع