صدر يوم 6/7/2016 تقرير اللجنة البريطانية المكلفة بالتحقيق في ظروف وملابسات التدخل البريطاني في حرب العراق عام 2003، فأعلن رئيسها جون تشيلكوت قائلا: "استنتجنا أن بريطانيا قررت الانضمام إلى اجتياح العراق قبل استنفاد كل البدائل السلمية للوصول إلى نزع أسلحة البلاد، العمل العسكري لم يكن آنذاك حتميا.. ورغم التحذيرات تم التقليل من شأن عواقب الاجتياح. إن المخططات والتحضيرات للعراق في فترة ما بعد صدام لم تكن مناسبة على الإطلاق".
إن هذا التقرير يفضح أمريكا قبل بريطانيا التي تبعتها في غزو العراق من دون مبرر، فلم تستنفدا الوسائل السلمية ولم تفكرا في العواقب ولم تخططا لفترة ما بعد الاحتلال. فمعنى ذلك أنهما قامتا بعدوان أحمق، وهما مسؤولتان عما حصل في العراق من قتل ودمار.
وذكر التقرير أن: "بريطانيا تحدثت عن الخطر الذي مثلته أسلحة الدمار الشامل في أيدي العراق بيقين لا مبرر له"، فالتقرير يثبت زيف ذلك. فرد بلير رئيس الوزراء البريطاني في تلك الحقبة على التقرير عقب صدوره كاذبا أنه: "اتضح لاحقا أن التقييمات الاستخباراتية التي تم تقديمها عندما كنا نتوجه إلى الحرب كانت مغلوطة. والعواقب كانت تحمل طابعا أكثر عدائية ودموية وأطول مدة مما كنا نتصوره وقت اتخاذ القرار بالتدخل". فبلير ما زال يكذب ويدّعي أنه علم لاحقا بأن التقييمات كانت مغلوطة! فيكذّبه التقرير بالقول: "إن الحكومة البريطانية استخفت بعواقب التدخل عسكريا في العراق على الرغم من تلقيها تحذيرات واضحة بهذا الشأن". فيعني ذلك أن سياسة أمريكا قائدة التحالف خاطئة وخرقاء لا تكترث بالعواقب، وبريطانيا تظهر كتابع لها.
وأكد التقرير أنه "في آذار/مارس 2003 لم يكن هناك أي خطر مباشر مصدره نظام صدام، ولذلك كان على الحكومة أن تواصل اتباع استراتيجية الردع، علما بأن أغلبية أعضاء مجلس الأمن كانوا يؤيدون عمليات التفتيش الأممية في العراق... وأن بريطانيا أضعفت سلطة مجلس الأمن في التصرف دون الحصول على تأييد الأغلبية للتحرك العسكري، وأن الأسس القانونية للتدخل العسكري البريطاني في العراق ليست مرضية". فهذا تعريض بأمريكا، فهي التي اتخذت قرار الغزو، وكانت تعلم أنها لن تحصل على موافقة مجلس الأمن لغزو العراق، واتخذت القرار منفردة وتبعتها بريطانيا، فالدولتان تعلمان أن نظام صدام لا يملك أسلحة دمار شامل، وقد سمح لهم صدام أن يفتشوا أي مكان، حتى دخلوا غرفة نومه. وبهذا يتأكد أن أمريكا أو غيرها من أعضاء مجلس الأمن لا تلجأ إليه إلا إذا رأت أنه سيحقق هدفها، وعندما ترى عكس ذلك تتجاوزه. فهذا يسقط شرعية مجلس الأمن، ويتأكد أنه لعبة بيد الدولة التي تتمكن من استخدامه لتحقيق أهدافها. ويتأكد فساد شرعيته حيث إن لكل دولة دائمة العضوية حصانة لا يستطيع أحد اتخاذ قرار أو توجيه إدانة ضدها، فهذا ظلم عالمي، يجب على الدول الأخرى أن تفضحه وتنفض عنه وتنسحب من الأمم المتحدة وترفض الانصياع لقراراتها المجحفة، والتي تجيز للدول الأعضاء الدائمين أن يخالفوها ويتحدوها بقرارات مغايرة.
إن بلير متهم بتضليل الشعب البريطاني وقد سار ملايين البريطانيين في الشوارع متهمين إياه بالكذب بشأن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وقد ثبت بعد الغزو أنها غير موجودة، والتقرير أثبت ذلك، وبلير يصر على كذبه حيث صرح عقب صدور التقرير، فقال كاذبا: "لم تكن هناك أي أكاذيب، ولم يتم تضليل البرلمان ولم نقدم أي التزام سري بالدخول في الحرب ولم نزوّر المعلومات الاستخباراتية بل اتخذنا القرار بحسن نية!!" أفي السياسية الرأسمالية التي تتخذ من المنفعة أساسا ومقياسا لها، حسن نية؟! أيوجد عاقل يصدق ذلك؟! فلا يوجد ما يسمى حسن نية عند أصحاب هذا المبدأ الذي أساسه العلمانية التي تقصي الدين وحسن النوايا عن السياسة. وكيف بالسياسة الإنجليزية مهد الديمقراطية الكاذبة وبثعالب الإنجليز كبلير يدّعي كاذبا أنه كان لديهم حسن نية باحتلال العراق وتدميره وقتل أهله وتشريدهم! وكما قال أمير الشعراء: "مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا" فلا دين لهم إلا المنفعة، ووسيلة الوصول إليها مبررة، والكذب مجبول بخبث وخداع ودهاء تقليد إنجليزي عريق.
وبالرغم من كل ما ورد في التقرير فإنه لم يوجه إدانة تجريم واحدة ضد بلير، ولم يعتبر قراره بشن الحرب على العراق غير قانوني، ولم يطالب بمحاسبته ولا بالتحقيق معه!! مما يدل على أن التقرير سياسي بامتياز، ولا يستهدف بلير ولا بريطانيا، فلا يستهدف المساءلة القانونية، وإنما يستهدف جهة أخرى، وعلى ما يبدو أنها أمريكا، لأنها صاحبة القرار الأول في العدوان، وإن لم يتعرض لها مباشرة،ويظهر أن هذا أسلوب مقصود حتى يفي بغرضه، وهو فضح أمريكا من دون التعرض لها مباشرة لئلا يثيرها ضد بريطانيا فعندئذ تعتبره أمريكا مؤامرة عليها وموجها ضدها، فذلك من الدهاء الإنجليزي. حيث جرى إعداده على مدى سبع سنوات من عمر اللجنة. فقد أخذ الإنجليز وقتا طويلا في التفكير حتى استنفدوا كامل ذكائهم وهم يعملون على إعداده. فتفكيرهم مبني على المنفعة قبل أن يكونوا رأسماليين، وعندما أصبحوا رأسماليين تضاعفت قوة التفكير لديهم من زاوية المنفعة. وقد تأجل صدوره مرات عدة بدعوى مخاوف تتعلق بالأمن القومي البريطاني، فأعلن بعد سبعة أعوام من التحقيقات التي بدأت بعد انسحاب آخر قوات قتالية بريطانية من العراق. مما يدل على أنه قد خطط لموعد صدوره. فأمريكا توصف الآن بالبطة العرجاء، فإدارة الديمقراطيين برئاسة أوباما على وشك الانتهاء، ومعركة الانتخابات محتدمة، وبريطانيا خاصة وأوروبا عامة تتخوف من مجيء الجمهوريين برئاسة ترامب، فقد حذر الرئيس الفرنسي أولاند يوم 30/6/2016 من خطورة انتخاب ترامب ولم يستبعد انتخابه، واعتبر انتخابه "أمرا خطيرا وسيعقد العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة". فالأوروبيون يتوجسون من أن أمريكا إذا فاز الجمهوريون ستتشدد معهم أكثر وتعمل على محاربتهم دوليا وفي مستعمراتهم القديمة بصورة أشد حتى يتراجعوا أمام حملتها كما حصل على عهد الجمهوريين برئاسة بوش. لأن الجمهوريين يشعرون أن سياسة اللين مع أوروبا ومع غيرها لا تعطي النتائج المرجوة كالتي ينتهجها أوباما. ولذلك قال ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي السابق في كتاب سيصدر في أيلول القادم تحت اسم (استثناء: لماذا يحتاج العالم إلى أمريكا قوية): "للأسف في الوقت الذي نواجه فيه الخطر الواضح والقائم لتهديد إرهابي متزايد بصورة سريعة أضعف الرئيس أوباما قوتنا بشكل كبير وتخلى عن حلفاء أمريكا وجرأ أعداءنا".
وما زال بلير يصر على الكذب بقوله: "إن العالم بلا صدام أصبح ولا يزال مكانا أفضل". أفبهذا الدمار والقتل والتشريد والفتنة الطائفية والتقسيم والتفتيت الذي أحدثه الاحتلال الأمريكي البريطاني في العراق أصبح العالم أفضل؟! نعم هو كذلك حسب شرعة المستعمر الذي لا يرحم!! ولذلك قال بلير كلاما يناقض كلامه الأول عندما أعرب عن قناعته بأن: "بلاده بريطانيا لو رفضت المشاركة في العملية العسكرية في العراق لتدخلت واشنطن لإسقاط صدام لوحدها". مما يدل على أن بريطانيا تدخلت عن سبق إصرار، وليس عن حسن نية، وليس حسب معلومات مغلوطة، فلم تكن ترد تدخل أمريكا في العراق، لأن صدام كان عميلا لبريطانيا، فاتخذت القرار لتحافظ على ما سيتبقى لها من نفوذ في العراق إذا سقط صدام ولئلا تتفرد أمريكا بكل شيء في العراق فتلتهم الكعكة وحدها. وأمريكا تدخلت بقرار منفرد، وبريطانيا اتخذت قرارها بالتدخل بعد 11 ساعة من التدخل الأمريكي، وكانت بريطانيا تراوغ حتى آخر ساعة لإبقاء القضية تراوح في أروقة الأمم المتحدة، وأمريكا تصر على التدخل بصرف النظر عن موافقة الأمم المتحدة.
وذكر التقرير أن بلير قال للرئيس الأمريكي بوش في مذكرة مؤرخة في 28/7/2002 أي قبل ثمانية أشهر من التدخل: "سأكون معك مهما حصل، لكن حان الوقت لننظر إلى الصعوبات بشكل صريح". وقال تشيلكوت معلقا على هذه التعاملات: "إن بلير بتأكيد دعمه لبوش كان يسعى للتأثير على الرئيس الأمريكي، عن طريق طرح تعديلات محتملة على الموقف الأمريكي". فخبث الإنجليز يصل إلى هذا الحد فيسيرون مع الأمريكان للتأثير عليهم بتعديل القرارات أو عرقلة صدورها، ولئلا يتفردوا في اتخاذ القرار وليتقاسموا معهم السرقات الاستعمارية، وفي الوقت نفسه يمكرون بالأمريكان بأسلوب خفي كلما أمكنهم ذلك ويقومون بفضحهم.
فهذا التقرير يعري أمريكا أمام العالم، يتهمها بشن الحروب بالكذب، فحروبها عدوانية وليست مشروعة، لأنها هي صاحبة القرار الأول وبريطانيا تبع لها! فلسان حال الإنجليز يقول: الذنب ذنب الأمريكان ونحن تبع لهم، فحاسبوهم أولا! فللإنجليز هدف خبيث، فهم بهذا التقرير يضعون أمريكا في قفص الاتهام. ولذلك قال رئيس الوزراء البريطاني كاميرون عقب صدور التقرير: "لا أعتقد أن الولايات المتحدة محقة دائما حيال كل شيء، ولكنني أعتقد أن شراكتنا معها حيوية بالنسبة لأمننا القومي". فالإنجليز يعلنون أنهم يسيرون مع الأمريكان عن خبث لتحقيق مصالحهم وليس لأن أمريكا صادقة أو محقة، بل هم يشككون بصدقها كما ذكر رئيس وزرائهم وكما ذكر التقرير. ولا يهمهم أن يخدعوا شعوبهم، فإذا افتضح الأمر يعلن رئيس الوزراء استقالته ويعلن تحمله للمسؤولية كما فعل بلير.
وأما بالنسبة لنا نحن المسلمين فلا أحد يستطيع أن يحاسب أيا من الحكام الذين دعموا العدوان الأمريكي البريطاني وفتحوا له القواعد من حكام العرب إلى حكام تركيا إلى حكام إيران الذين اعترفوا بالتعاون مع أمريكا في غزوها للعراق. فلا سبيل للمسلمين إلا العمل على إسقاطهم وإسقاط أنظمتهم التي تتعاون مع الأعداء، ومن ثم الإتيان بقيادة مخلصة لله ولرسوله وللمؤمنين.
رأيك في الموضوع