تكاد تتفق مراكز الدراسات الاستراتيجية عند طرح تصورها لمستقبل سوريا، أن سوريا لن تعود كما كانت من قبل، وبناء على الواقع المفكك وتوزع النفوذ على الأرض، أصبحت فكرة التقسيم تطرح من حين لآخر على الرغم من أن القرارات الأممية، والتصريحات الرسمية الأمريكية ترتكز على بقاء (سوريا موحدة) ومن المفترض أن يعني ذلك رفض فكرة التقسيم، إلا أن العبارة بحد ذاتها تحمل في طياتها بذور التقسيم لأنها توحي بأن سوريا عبارة عن أجزاء، وهذا يبقي الباب مفتوحا حول صيغة العلاقة بين هذه الأجزاء، لذلك كان من اللافت ما نشرته مؤسسة راند الأمريكية والمعروفة بقربها من دوائر القرار في أمريكا في شهر كانون الأول/ديسمبر 2015 بعنوان (خطة سلام من أجل سوريا) وقد جاء فيه (يتمثل اقتراح راند في إنشاء ثلاث مناطق جغرافية متفق عليها في سوريا، تتصل اثنتان منهما وتنفصل الثالثة عنهما...) وهذه الجيوب هي مناطق السيطرة الفعلية للأكراد والثوار والنظام، أما منطقة سيطرة تنظيم الدولة فستبقى تحت سيطرته، ووفق المقترح "ستخضع هذه المنطقة لإدارة دولية حال طرد تنظيم الدولة منها بشكل تدريجي...) (مؤسسة راند-خطة سلام من أجل سوريا، ترجمة مركز إدراك)، ومع التغيرات التي جرت على أرض الواقع في سوريا عادت مؤسسة راند ونشرت في 7/6/2016 تتمة للمقترح الأول بعنوان (خطة سلام من أجل سوريا 2) وقد جاء فيه (... وفي الوقت الذي يواصل فيه المجتمع الدولي جهوده من أجل التوصل إلى تسوية تقود لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا، يقدم هذا المقترح خيار "اللامركزية" كجزء من الحل)، وقد بينت أن سبب هذا التحديث هو ما استجد من أحداث في سوريا تتلخص بـ:
- إعلان الأطراف الرئيسية على الأرض والرعاة الخارجيين قبولهم لاتفاق "وقف الأعمال العدائية"!
- تمكن النظام بالدعم الروسي من تعزيز سيطرته على الكثير من المناطق.
- إعلان روسيا بدء عملية انسحاب جزئي لقواتها العسكرية.
- إعلان قادة الأكراد عن تأسيسهم لـ"اتحاد شمال سوريا".
- توجيه النظام معركته باتجاه تنظيم الدولة وتحول العديد من فصائل المعارضة السورية إلى قتال تنظيم الدولة بدلاً من قتال النظام.
وهذه العوامل التي استجدت بحسب (راند) استدعت إجراء تحديث لمقترحها الأول، معللة ذلك بأن (توحيد سوريا - تحت قيادة وطنية متفق عليها مع تواجد هيكلة أمنية واحدة - يعد أمراً بعيداً...) والخيار الواعد بحسب راند هو خيار "اللامركزية"، الذي يقوم على أساس التوزيع الأفقي للسلطة، لتحويل الأنظار بعيدا عن التوزيع الرأسي للسلطة، وهذا ينسجم مع إصرار أمريكا على بقاء النظام في بنيته الأساسية، وقد طرحت أربع خيارات لترتيبات الحكم، وهذه الخيارات هي: (خيار لامركزية خفيفة "محدودة") وهو (الخيار الأقل طموحاً) ويعني الاعتماد على الدستور السوري القائم حاليا وتفعيله على الأرض بشكل فعلي؛ لذلك فهو يتطلب فقط (إعادة رسم التقسيمات الإدارية في سوريا وليس القيام بإصلاح دستوري أو تشريعي) (وبالتالي فهو لا يحمل أي تغيير عن الوضع الحالي).
أما (الخيار الثاني: إضفاء الطابع المؤسسي على السيطرة المحلية) ويعتمد على فكرة إضفاء الشرعية الإدارية على المناطق القائمة فعلا بحسب الواقع الآن، وتعتبر (راند) هذا المقترح بأنه لا يتطلب إحداث تغييرات في التقسيمات الإدارية. وهذا الشكل من الحكم الذاتي ينبني على "الإخلاص" للدولة المركزية ويبقي الحد الأدنى من هيمنة الدولة المركزية على أمور مثل: الجمارك ومراقبة الحدود والانضمام للجيش وفرض الضرائب على التجارة. ومعوقات هذا الخيار بالنسبة (لراند) تتمثل في تاريخ النظام المغرق في السيطرة المركزية، والحاجة للقيام بتنازلات قد لا تكون متاحة في ظل تقدم النظام في ميادين القتال الآن، وخطر استخدام من تسميهم بـ (الجماعات المتشددة ومنظمات المجتمع المدني) القوة أو "الرفاه الاجتماعي" كوسيلة للحفاظ على السيطرة المحلية وتعزيز قواعد دعمهم. وملاحظة (راند) هذه تعني أن المطلوب أمريكيا هو خيار لا تتمكن فيه أية قوى وبخاصة القوى المخلصة من الاستفادة من مخرجات الحل مستقبلا، لذلك فإن العواقب التي تواجه هذا الاقتراح تجعله مشوبا بالتضعيف والاستبعاد بالنسبة لراند.
أما الخيار الثالث فهو لامركزية بين الأكراد والنظام، وتصف راند هذا المقترح بقولها (السمة المميزة في هذا الخيار تكمن في التباين في كون الأكراد يتمتعون بحكم ذاتي دون أن يتمتع به أي من المعارضة العربية السنية أو الطائفة الدرزية التي تتركز في السويداء) وتعتبر راند هذا المقترح بأن له حظاً كبيراً بالإشارة لقولها (قد يكون هذا السيناريو صاحب احتمال كبير للحدوث، نظراً لطبيعة الوضع الميداني على الأرض ولكنه سيترافق مع الكثير من الجدل).
أما الخيار الرابع فهو ما تسميه (اللامركزية المتماثلة) و(يتمثل في تطبيق درجة من الحكم الذاتي لكل من الأكراد والمناطق السورية التي تسيطر عليها المعارضة السنية العربية والتي تنقسم على أساسه سوريا إلى ثلاث مناطق أو أكثر، وعلى الرغم من تماهي هذا الخيار مع الطرح الأولي لراند في تقريرها الأول في شهر كانون الأول/ديسمبر إلا أنها ألمحت إلى صعوبة هذا الخيار والسبب أن عناصر النظام والمعارضة لا يزالون يملكون تصميماً على النصر الكامل، ولأن (الفيدرالية المتطرفة يعتبرها السوريون جزءا من المؤامرة الغربية وستساهم في استحضار مخططات الاستعمار لتقسيم سوريا).
وتختم تقريرها بقولها (...إن بقي الأسد أو رحل، وحتى لو تم توحيد الدولة السورية على الورق مجدداً، فإنه من المرجح أن تظل سوريا منقسمة بشكل كبير بين المناطق التي يسيطر عليها النظام وتلك التي تسيطر عليها المعارضة على الأقل لبعض الوقت المستقبلي).
وبقراءة هذا التقييم من هذا المركز الأمريكي المقرب جدا من صناع القرار في أمريكا، يظهر أن فكرة التقسيم الفعلي لسوريا ليست ضمن أجندة أمريكا حاليا لسوريا، وإن كانت الاستراتيجية العامة لأمريكا هي زرع بذور التقسيم في سوريا كما فعلت من قبل في العراق، وكما صنعت فعلا في السودان، إلا أن التقسيم الفعلي لسوريا لا يخدم مصالح أمريكا في سوريا الآن بل سيضعف نفوذها، ويفتح الباب على مصراعيه لنفوذ آخرين ظل باب سوريا موصدا في وجههم خلال أربعين سنة من حكم عملاء أمريكا آل الأسد، والخط العريض لما تسعى له أمريكا يدور حول بقاء النظام هو المسيطر فعلا، وأية صيغة لامركزية أولية قد تضطر لها أمريكا لاستيعاب المعارضة وامتصاص الثورة ستكون لامركزية صورية بلا مضمون حقيقي.
وعلى الرغم من كل ما حققته أمريكا على أرض الواقع في سوريا إلا أنه بقي في سوريا مشروعان: مشروع الأمة وتحتضنه الثورة في أعماقها وجذورها، ويتمثل في عودة الإسلام إلى واقع الحياة، وهذا المشروع كامن في الثورة متجذر فيها على الرغم من محاولات الحرف والعزل والتحييد الداخلي والخارجي لهذا المشروع، والمشروع الثاني مشروع أمريكا وأذنابها وأشياعها، ويتمثل في بقاء سوريا تحت هيمنة الغرب الكافر ورأس حربة في وجه نهضة الأمة الإسلامية. ومشروع الأمة الحقيقي ستكون له الغلبة في آخر الأمر طال الزمن أم قصر زالت الثورة والثوار أم بقوا، لأنه وعد الله سبحانه ولن يخلف الله الميعاد!
رأيك في الموضوع