(مترجمة)
عندما جاءت النتائج المبكرة الأولى التي تظهر تقدم معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي، بدأ سعر صرف الجنيه الإسترليني في أسواق الصرف الأجنبي بالانخفاض فوراً وبشكل حاد. فعندما تم التأكيد على التصويت للخروج في صباح يوم الجمعة الباكر، انخفض الجنيه بنسبة 10% ليصل إلى أدنى مستويات له منذ عام 1985. ولكن وفي سياق صراع الاقتصاديات العالمية وحرب العملات بين الدول (تخفيض قيمة العملات المحلية في محاولة لتحفيز الصادرات) فإن انخفاض الجنيه قد ينظر إليه على أنه شيء إيجابي جداً.
في الأسابيع التي سبقت الاستفتاء، حذّر كل من مارك كارني - محافظ بنك إنجلترا - وجورج أوزبورن - وزير المالية - من العواقب الاقتصادية السلبية الكبيرة في حال تفوق معسكر الخروج على معسكر البقاء؛ فإن سوق الأوراق المالية سوف يهبط وقيمة منازل الناس ستنخفض وسترتفع أسعار الفائدة وسينتقل الاقتصاد إلى الركود وستتأثر التجارة العالمية سلباً. وسيتكفل الزمن بإخبارنا إلى أي مدى ستكون هذه التوقعات صحيحة، على الرغم من أنه في دورة الازدهار والانتكاس الاقتصادي المعتاد فإن مثل هذه التفاعلات السلبية تحصل كل 8-10 سنوات (وهذا يرجع إلى سنة 2008 قبل 8 سنوات). وتوقع أوزبورن أيضاً أن التصويت للخروج سيضرب متوسط دخل الأسرة في بريطانيا بنسبة 4300 يورو سنوياً. جاء هذا التوقع المتشائم بالتزامن مع تصريحات مماثلة من صندوق النقد الدولي ومجموعة العشرين ووكالات التصنيف الائتماني وبنك إنجلترا، وحتى الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد فشل في التأثير على السكان من أجل إبعادهم عن التصويت لصالح الخروج. وفشلت "مخاوف المشروع" التي حذرت من انهيار اقتصادي في حال مغادرة الاتحاد الأوروبي من كسب تأييد واسع النطاق في البلاد.
لقد أبرز التصويت الارتياب الشديد للمؤسسة وخططها المالية/تحذيراتها. ولم تعد تعمل السياسات النقدية والماليّة التي تم تنفيذها من قبل البنوك المركزية المهيمنة في العالم والبيروقراطيات المركزية. طوال سنوات، دفع أصحاب النخبة العالميون سياسات العجز في الإنفاق والتنظيم الحكومي وتحفيز البنوك المركزية لعلاج الاقتصاد العالمي في أعقاب الأزمة المالية عام 2008، ولتدعيم هذه النقاط، فقد أشار أصحاب النفوذ الاقتصادي المرتبطون مع الحكومة والأوساط الأكاديمية والقطاع المالي لجميع أنواع المقاييس لإظهار كيف كانت سياساتهم ناجحة. ولكن الناس في الشارع تدرك الواقع المختلف تماماً، ويعرفون أن مستوى معيشتهم قد تراجع وارتفعت تكلفة المعيشة وتدهورت فرص العمل المتاحة أمامهم. وها هم يخسرون ثقتهم عندما يرون الركود الاقتصادي في الوقت الذي يوعدون بعكس ذلك. فقد كان التصويت للخروج أقوى في المناطق الضعيفة اقتصادياً والمناطق الأكثر فقراً، مع بقائه سائداً في المدن الأكثر ازدهاراً. وسيشكل هذا التفاوت الاقتصادي والحياتي تحدياً للسياسيين في السنوات المقبلة.
خلال الأزمة المالية الأخيرة، صرخ أصحاب النفوذ الاقتصادي من إمكانية "العدوى" الاقتصادية وأدّت هذه القصة المرعبة إلى حالة من الذعر السياسي وبالتالي تم قبول كفالات بنكية كبيرة وطباعة للمال بلا هوادة لحماية البنوك. وحصل التيسير الكمي، حيث كانت أسعار الفائدة قريبة من الصفر والأسعار السلبية للفائدة حالياً، كل هذا أفاد أصحاب النفوذ المالي (1%) على حساب الجمهور. ولكن الآن أصحاب النفوذ المالي في العالم سيلاقون حتفهم مع هذه العدوى السياسية الأكثر سميّة والأكثر اتساعاً. وهكذا، ها هي موجة عارمة من مطالب الناخبين لتقليد الشعب البريطاني واستعادة السيطرة على بلدانهم وحكوماتهم من أصحاب النفوذ المالي والبيروقراطيين غير المنتخبين في الاتحاد الأوروبي. ومن المرجح أن تتشجّع جميع الحركات السياسية المناهضة للاتحاد الأوروبي في فرنسا وألمانيا وهولندا واليونان وغيرها للمطالبة بتصويت كما حدث في بريطانيا. وبالتالي فإنه من المرجح أيضاً أن ينهار الاتحاد الأوروبي بشكل كامل. وهذا لا يعني بأنه سيكون لدى الدول القومية الرأسمالية سياسات خاصة من تلقاء نفسها مختلفة عن الاتحاد الأوروبي.
وفيما يتعلق بالاحتمالات الحالية في بريطانيا، فقد أعلن الاتحاد الأوروبي أنه على الرغم من أن الجنيه انخفض بشكل كبير وتراجع سوق الأسهم في بريطانيا في يوم الجمعة بنسبة 4%، إلا أن انخفاض الأسهم الفرنسية 8% والألمانية 7% ومؤشرات سوق الأوراق المالية الأوروبية 9% كان أكبر. مما يدل على أن الاستفتاء قد يضر أوروبا أكثر مما سيضر بريطانيا. وستكون بريطانيا مستقلة في وضع شروط التجارة الخاصة بها (يجب على جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي الـ 28 الاتفاق على شروط التجارة وبالتالي لا يوجد اتفاقيات تجارة مع الصين والهند على سبيل المثال). وستقوم بريطانيا بإقامة روابط أقوى بكثير مع هذه الدول. وكعضو مؤسس لبنك الاستثمار في البنية التحتية الآسيوية (AIIB) والذي أنشأه الصينيون، فإن بريطانيا مع لندن الآن المركز التجاري لليوان الصيني وهي في وضع جيد لتطوير الصفقات التجارية على نطاق أوسع من ذلك بكثير مع الصين وغيرها، كما أظهرت سويسرا المستقلة أن ذلك ممكن.
وسيتم قياس نجاح الاستفتاء من خلال الاتفاقيات التي ستفاوض عليها بريطانيا الآن مع بقية دول الاتحاد الأوروبي، والتي سوف تستغرق وقتاً، وعلى المدى القصير قد يكون هناك ضعف في الاستثمار في بريطانيا ولكن تراجع الجنيه سيعزز الصادرات. وعلى المدى الطويل، فإن القدر الكبير من الاستثمار سيعود سببه لوصول بريطانيا إلى سوق واحدة لأكثر من 500 مليون شخص في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي ورابطة التجارة الحرة الأوروبية (EFTA). وسيكون دور العديد من البلدان هو الجري وراء تلك القطعة من الكعكة، ولذلك فإن كل الاتفاقيات التي تعقدها بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي ذات أهمية كبيرة. وهذا هو السبب الذي يجعل الكثيرين يعتقدون بأن على بريطانيا أن تبقى جزءاً من سوق واحدة، ولا يوجد أي بلد تمكن من فعل ذلك بدون السماح بهجرة حرّة من بقية دول الاتحاد الأوروبي، حيث إن هذا القيد كان واحداً من الحجج الأساسية التي حملها الاستفتاء.
وفي صباح يوم الجمعة قال مارك كارني إن بنك إنجلترا "سيتخذ جميع الخطوات الضرورية" لحماية اقتصاد البلاد في أعقاب التصويت للخروج. وقال البنك إنه مستعد لتقديم 250 مليار يورو إضافية من التيسير الكمي (التيسير الكمي للمال المطبوع) لدعم أداء الأسواق. لقد سمعنا هذا الكلام من قبل، ففي أيلول/سبتمبر 2012، وعد رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي بالقيام "بكل ما يلزم" لدعم اليورو وتحديداً التيسير الكمي من خلال شراء ديون لا قيمة لها (سندات) من الدول الأعضاء لدعم العملة الموحدة. بعد أربع سنوات، تستمر سياسة "كل ما يلزم"حيث تجري حالياً في 80 مليار يورو شهرياً، في طباعة يورو من الفراغ وشراء ديون المفلسين في معظم دول الاتحاد الأوروبي الجنوبية المفلسة مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال. لقد كانت هناك مخاطر كبيرة واستراتيجيات فاشلة والنمو الاقتصادي غير موجود أو الفقراء في أنحاء أوروبا وارتفاع معدل البطالة والمزيد من الدول المحافظة مع ميزانيات متوازنة مثل الدنمارك وفنلندا ولوكسمبورغ وأستراليا لا ترغب في ذلك. ولقد دعمت فقط المزيد من حملات الخروج. وستحتاج اليونان على الأرجح إلى برنامج إنقاذ آخر في وقت لاحق من هذا العام. وقد عمل اليورو فقط على زيادة اتساع الفجوة بين دول شمال أوروبا الأكثر ازدهاراً مثل ألمانيا وفرنسا وبين دول الجنوب الفقيرة التي تحتاج إلى عملتها الخاصة والتي يمكنها تخفيض قيمتها. ولكن من المخيب للآمال أنه في مواجهة فشل الرأسمالية في جميع أنحاء أوروبا فإن البدائل الأكثر جذرية لا تؤخذ بعين الاعتبار.
سوف يشعر الكثيرون أن المدى القصير والمتوسط مشكوك به قبل أن يتم التفاوض حول شروط تجارية جديدة مع الاتحاد الأوروبي وجميع أنحاء العالم. وهو ثمن قليل يُدفع مقابل البيروقراطية الصارمة والوقوع فوق دول الاتحاد الأوروبي القومية. وغالباً ما يقال إنه من المفضل أن تكون أول من يقفز من السفينة الغارقة.
بقلم جمال هاروود
رأيك في الموضوع