تقرر عقد المؤتمر الاستثنائي الثاني لحزب العدالة والتنمية الحاكم يوم 22 أيار الجاري، وستجري فيه تغييرات ليست فقط في رئاسة الحزب، بل في اللجان ذات الصلاحية في الحزب وفي الحكومة وفي المجموعة البرلمانية للحزب، وذلك بعدما أعلن رئيس الوزراء داود أوغلو يوم 5/5/2016 استقالته من رئاسة الحزب التي تعني تنحيه من رئاسة الوزراء لأن نظام الحزب الداخلي ينص على أن رئيس الحزب هو من يكون رئيس الوزراء.
إن هذا يشير إلى وجود اختلاف بينه وبين رئيس الجمهورية أردوغان. مع أن داود أوغلو عين من قبل أردوغان كمستشار له أولا عندما كان الأخير رئيسا للوزراء، ومن ثم وزيرا للخارجية، وبعد ذلك عينه خلفا له في رئاسة الحزب والحكومة. فكل ذلك يؤكد مدى ثقة أردوغان بداود أوغلو. إلا أنه عندما أصبح داود أوغلو رئيسا للوزراء أراد أن يمارس صلاحياته التي يقتضيها هذا المنصب ويتخذ القرارات مستقلا. ولكن أردوغان يسعى لنظام رئاسي يبقيه متحكما في السلطة وصاحب الصلاحيات التنفيذية.
يلاحظ أنه لا يوجد أي اختلاف بينهما في السياسة، فهما يسيران في الخط الأمريكي، ونفذا هذه السياسة معا من دون أي تناقض. ومثال ذلك ما ذكره داود أوغلو في لقاء على قناة الجزيرة أذاعته يوم 3/5/2016 أنه "زار سوريا أكثر من 60 مرة خلال 10 سنوات أثناء ما كان مستشارا لأردوغان ومن ثم وزيرا لخارجيته، وذلك عندما عانى نظام بشار أسد العزلة عام 2006"، أي بعد طرد المجرم من لبنان عقب مصرع الحريري، وليعزز علاقته مع تركيا حتى "أصبح بشار أسد صديقا شخصيا لنا" تماما كما ذكر أردوغان نفسه، "فكانت تركيا البلد الوحيد الذي ساعد سوريا (نظام بشار)، وأنه كان يقوم بدور الوسيط بين نظام بشار أسد وكيان يهود". فمعنى ذلك أنه هو وأردوغان كانا ينفذان سياسة أمريكا لينقذا عميلها بشار أسد. وكانت علاقته مع إيران كما هي علاقة أردوغان تصب في الاتجاه نفسه، وأعلن أن "تركيا وإيران متطابقتان ومتفاهمتان تماما في سوريا".
ولذلك فإن داود أوغلو لم يختلف مع أردوغان في السياسة الخارجية. وقد علقت أمريكا على قرار داود أوغلو كما ورد على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إرنست يوم 5/5/2016: "لا أتوقع أن يكون لهذا أي تأثير على قدرة الولايات المتحدة وتركيا على العمل معا لتطبيق استراتيجيتنا في تجريد تنظيم الدولة الإسلامية من قدراته وتدميره". واعتبرت الأمر "مسألة سياسية داخلية في تركيا". ولهذا فالمسألة لا تتعلق باختلاف أردوغان وداود أوغلو في السياسة الخارجية والتبعية لأمريكا.
وعلق أردوغان يوم 6/5/2016 على إعلان داود أوغلو بالتنحي أن ذلك "لن يُحدث فراغا في عملية الحكم ولن يؤثر على الاقتصاد بصورة مباشرة، وإن الدستور الجديد والنظام الرئاسي ضرورات ملحة وليسا مجرد بندين على جدول الأعمال الشخصية". مما يؤكد أن أردوغان موافق على تنحي داود أوغلو، وأن المسألة ليست في الاختلاف في قضايا سياسية، فهي تتمحور على نقل الصلاحيات من رئيس الوزراء لرئيس الجمهورية ليصبح نظاما رئاسيا.
وتنحي داود أوغلو يفسح المجال أمام أردوغان ليحقق أهدافه في إقامة النظام الرئاسي، فلم يصطدم معه، بل رجح الاستقالة، وقال في كلمته في مؤتمر صحفي: "أقول لأعضاء حزبنا: حتى اليوم كنت أقودكم ومن الآن فصاعدا أنا واحد منكم". فأردوغان مصر على هذا النظام ويريد أن يعمل له بكل جد، فيريد أشخاصا يسعون معه لتحقيقه. فقد نقلت وكالة رويترز يوم 5/5/2016 عن مصدر مقرب من حزب أردوغان قوله: "إن أردوغان سيتحرك بسرعة ويحاول الوصول إلى أغلبية كافية لتحقيق الرئاسة التنفيذية، وسيتم تشكيل هيكل حزبي واختيار قيادة لتحقيق ذلك.. وإنه لا يريد أن يخسر المزيد من الوقت". أي أن أردوغان على عجلة من أمره ويريد أن يقيم النظام الرئاسي في أقرب وقت حتى لا تضيع منه هذه الفرصة. ونقلت الوكالة عن المستشار الرئاسي جميل أردم قوله: "إن الاقتصاد سيستقر بدرجة أكبر عندما يتولى رئاسة الوزراء شخص أكثر توافقا مع أردوغان". مما يدل على وجود توافق بينهما، ولكن أردوغان يريد توافقا أكثر، مما يعني وجود خلاف بينهما في الأساليب في التعاطي مع المسائل، وليس اختلافا في السياسة. فيريد أردوغان أشخاصا يوافقونه تماما وينفذون له ما يريد دون اختلاف حتى في الأساليب.
ولقد لاحظنا أن داود أوغلو ليس متحمسا للنظام الرئاسي وهو النظام الذي سيسحب منه الصلاحيات، بدليل قوله عندما خسر حزبه الانتخابات التي جرت في حزيران العام الماضي بأن "هذه الخسارة لتدل على أن الشعب التركي لم يصوت لمشروع النظام الرئاسي وأن هذا المشروع قد انتهى". ولكنه تراجع بعد ذلك ليقول بعد فوز حزبه في انتخابات تشرين الثاني العام الماضي يوم 30/12/2015: "إن نتيجة انتخابات تشرين الثاني الماضي كانت رسالة من أهل تركيا تطالب بوضع دستور جديد من خلال التوافق.. وإن النظام الرئاسي هو شكل الحكم المناسب لتركيا". فهذا التردد والتناقض في التصريحات ليدل على أن موقفه يمليه الواقع، وهمّه أن يحافظ على مركزه.
فأردوغان يتعامل مع قضايا داخلية عدة بقوة وحسم، ولكن داود أوغلو وإن وافقه في الرأي فيها فإنه يعمل على اتخاذ أساليب أكثر ليونة. فمثلا تصفية جماعة غولان فيريد أردوغان تصفيتها بشكل نهائي، حيث جعلها مسألة مصيرية لأنه اكتشف أنها كانت تتآمر عليه وتعمل على إسقاطه، ولكن داود أوغلو أراد تصفية القيادات والمؤثرين فيها وليس جميع أنصارها. حيث إن هذه الجماعة التي تطلق على نفسها جمعية الخدمة تسير في الخط الأمريكي وأرادت أن تجعل الحزب الحاكم تحت تأثيرها لتحقق مصالحها الذاتية وهي تخدم أمريكا في صراع بين العملاء على المصالح الذاتية والمناصب، فعندما اكتشف أردوغان ذلك عندما أثارت فضيحة الرشاوى يوم 17/12/2013 وطالت ابنه والمقربين منه عزم على تصفيتها نهائيا، وفي مسألة الأكاديميين الذين كتبوا رسالة ينتقدون سياسة الدولة تجاه الأكراد أراد أردوغان توقيفهم ومحاكمتهم، ولكن داود أوغلو أراد إثبات إدانتهم أولا، وكذلك التعامل مع نواب حزب الشعوب الديمقراطي الكردي فيريد أردوغان نزع الحصانة البرلمانية عنهم وتقديمهم للمحاكمة لتأييدهم حزب العمال الكردستاني الانفصالي فلم يتحمس داود أوغلو لذلك، ومثلا أردوغان يتبع سياسة أكثر حدة مع الاتحاد الأوروبي ولكن داود أوغلو يتبع سياسة دبلوماسية ناعمة مع الاتحاد، وهكذا لوحظ وجود فوارق في أساليب التعامل مع بعض القضايا وأردوغان يصر على تنفيذ سياساته حسب أساليبه.
وكذلك أسلوب أردوغان مع أمريكا حيث ينتقدها، ويطالبها بأشياء ولا تلبيها، كالتدخل البري في سوريا وكإقامة مناطق آمنة ومنع الأكراد من إقامة كانتونات محاذية لتركيا، ولكنه في النهاية انصاع لأمريكا ويسمح لها باستعمال قاعدة إنجرليك ويشاركها في الحرب على تنظيم الدولة، وتدريب وتجيهز معارضة سورية عميلة، ويظهر أن أمريكا موافقة على هذا الأسلوب الذي يتبعه أردوغان ليكسب شعبية أكثر كما كان يفعل عبد الناصر وهو ينفذ المشاريع الأمريكية، فيخدع الناس أكثر وهو الآخر ينفذ مشاريعها، ويتحالف مع عملائها في إيران والسعودية ويقبل بقراراتها المتعلقة بالنظام السوري للحفاظ على هويته العلمانية. وقد ركز النفوذ الأمريكي في الداخل بتصفية عملاء الإنجليز في الجيش والقضاء والتعليم العالي وفي الحكم. أما داود أوغلو فهو يميل للدبلوماسية أكثر بحكم أنه لم يمارس العمل السياسي ولم يقم بالكفاح السياسي فقد قضى عمره في المجال العلمي كأكاديمي في قسم العلوم السياسية.
ولا يستبعد أن تحدث انتخابات مبكرة في الخريف القادم أو السنة القادمة حتى يرفع أردوغان من أصواته، وخاصة أن حزب الحركة القومية الذي يخسر لحساب حزب أردوغان تعصف به حاليا أزمة داخلية، فإذا استمرت هذه الأزمة وهي تتمثل في الصراع على رئاسة الحزب فإن هناك احتمالا بانسياب أصوات ليست بسيطة نحو حزب أردوغان كما حصل في انتخابات تشرين الثاني الماضي.
وعلى ضوء ذلك فإننا لا نرى فيما يجري في حزب أردوغان وما يجري بينه وبين رئيس وزرائه خيراً للإسلام والمسلمين، بل إن أردوغان يسعى لتأكيد زعامته فيعمل على تعزيزها بتعزيز صلاحياته ليستمر في تنفيذ المشاريع الأمريكية، ولا يعني ذلك أن أردوغان يقترب من نظام الخلافة كما يتوهم كثير من السذج المؤيدين له والذين يقولون أن النظام الرئاسي أشبه بنظام الخلافة، وقد أكد يوم 27/4/2016 أن الدستور الجديد سيبقى علمانيا وأن مطالبة رئيس البرلمان بأن يكون دينيا هو رأي شخصي لا يمثل حزبه. ولن يقيم الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، بإذن الله إلا حزب تقي نقي أسس من أجلها مستندا إلى العقيدة الإسلامية رافضا للعلمانية الكافرة التي تفصل الدين عن الحياة.
رأيك في الموضوع