إنه لمن كبرى المصائب التي تحل ببلد ما أن يصبح ذلك البلد ساحة للصراع الدولي، ويصبح مصيره تقرره القوى الدولية الاستعمارية وليس أهله، بل وتصبح القوى داخل هذا البلد أداة بيد تلك القوى، وليبيا مثال على ذلك، حيث تأسست فيها حكومتان في طرابلس وطبرق، ومن ثم أعلنت حكومة السرّاج لتحل محلهما حسب مقررات اتفاق الصخيرات يوم 17/12/2015 الذي صاغته القوى الدولية وخاصة بريطانيا.
فقد عملت بريطانيا على إنجاح هذا الاتفاق واستطاعت أن تستصدر قرار مجلس الأمن رقم 2259 يوم 23/12/2015 وشكلت حكومة السرّاج في تونس بعدما لم تتمكن من تشكيلها داخل ليبيا، ونقلتها عن طريق البحر إلى طرابلس. وبدأت هذه الحكومة أعمالها يوم 31/3/2016 بدعم أوروبي واضح حيث بدأ الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات على المعرقلين لسيرها، وجعلت قوات من وزارة الداخلية في حكومة طرابلس تقوم بحمايتها، وحاولت أن تجعل برلمان طبرق يوافق عليها إلا أن جماعة حفتر عرقلوا التصويت عليها، فجعلت بريطانيا حكومة طرابلس تتنازل لها وتعلن استقالتها يوم 5/4/2016: "نعلن توقفنا عن أعمالنا المكلفين بها كسلطة تنفيذية ونواب (لرئيس الحكومة) ووزراء"، فلم يرد اسم رئيسها الغويل، مما يدل على عدم موافقته، وبالفعل قام الغويل في اليوم التالي وأعلن رفضه قائلا "إن كل من يتعامل مع القرارات الصادرة عن حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج سوف يعرض نفسه للمساءلة القانونية". ويذكر أن الأمريكان في المدة الأخيرة قاموا واتصلوا بالغويل، ولذلك اتخذ هذا الموقف. حيث إن أحد المصائب التي حلت بالأمة أن توجد فيها ذمم رخيصة تباع وتشترى، فأصبح الوسط السياسي في ليبيا يتشكل من عملاء أكثرهم لبريطانيا، وأمريكا تعمل على شراء العملاء أو التأثير عليهم.
إن أمريكا لا تستطيع معارضة حكومة السراج علنا، لأن قرارا دوليا صدر بحقها، وأصبح الرأي العام الدولي معها، فإذا عارضتها فإنها ستتعرى أمام العالم. ولذلك أعلن السفير الأمريكي في ليبيا بيتر بودي ومبعوث واشنطن الخاص إلى هناك جوناثان واينر دعمهما لحكومة السراج. ولكنأمريكا تستخدم العملاء لعرقلتها، فقاطع عضوان في المجلس الرئاسي التابع لحكومة سراج الجلسات بسبب موضوع حفتر، وهدد 94 نائبا من برلمان طبرق البالغ مئتين بتشكل مجلس رئاسي آخر بعدما عرقلوا التصويت على حكومة السراج في برلمانهم. ومعنى ذلك أن مصير هذه الحكومة في خطر.
وفي الوقت نفسه تقوم أمريكا وتعمل للتدخل غير مكترثة بالعملية السياسية، فتدّعي أن مهمتها محاربة الإرهاب وتنظيم الدولة الإسلامية، فبدأت تخطط لشن هجمات، فشنت يوم 19/2/2016 هجوما على معسكر داخل ليبيا فقتلت 49 شخصا. وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد ذكرت يوم 8/3/2016 أن "وزارة الدفاع الأمريكية قدمت للبيت الأبيض خطة الشهر الماضي لشن ما يصل إلى 40 ضربة جوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا لكن جرى تأجيل الخطط انتظارا للجهود الدبلوماسية". وكل ذلك يشير إلى أن أمريكا تعمل على إفشال الحكومة حتى تبرر هجماتها لأن الجهود الدبلوماسية قد فشلت! وقد اتخذت قرارا يتعلق بذلك عندما قال رئيسها أوباما بعد اجتماعه بفريقه الأمني يوم 28/1/2016 بوجوب"دعم الجهود الراهنة لمكافحة الإرهاب في ليبيا والدول الأخرى" بعدما عرقلت بريطانيا صدور قرار في مجلس الأمن يتعلق بالتدخل.
وقد كشف مبعوث الأمم المتحدة لليبيا كوبلر عن ذلك عندما قال يوم 22/3/2016 (صحيفة الشرق الأوسط): "إن أي عمل عسكري موجه لمحاربة الإرهاب في ليبيا لا بد أن يتم وفق أحكام الأمم المتحدة"، أي أن هناك دولاً تريد التدخل العسكري خارج إطار الأمم المتحدة، وهي تتخذ قرار التدخل السابق مشروعا، فأضاف: "القرار 1973 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في آذار 2011 والذي فرض التدخل الجوي على ليبيا وسمح باستخدام القوة وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لا يزال ساري المفعول"، وهذا تأييد للموقف الأمريكي الذي يبحث عن مبررات للتدخل، في الوقت الذي يعارض فيه التدخل فيقول: "انتهى وقت المؤتمرات والفنادق والمزايدات السياسية والتسريبات الإعلامية حول (التدخل الأجنبي في ليبيا) وسيناريوهات إعلان بعض الدول عن (حرب شاملة فيها) ضد تنظيم الدولة والإرهاب". فهو يعمل على مسك العصا من الوسط فيعارض التدخل من جهة لصالح أوروبا ويبرر التدخل من جهة أخرى لصالح أمريكا.. فحكومة وبرلمان طبرق يسيطر عليهما حفتر عميل أمريكا، أي أن أمريكا هي التي تعرقل سير حكومة السرّاج المدعومة أوروبيا، وقد أصبح لأمريكا عملاء في طرابلس فهم يعرقلون انتقال حكومة السرّاج إليها. ولذلك يعمل مبعوث الأمم المتحدة على إرضاء عملاء أمريكا، فعندما سئل حول احتمال أن تشمل الترضيات حفتر القائد العام للجيش الليبي في حكومة طبرق الذي لم يعين في حكومة السرّاج قال: "نعم نحن نتحاور مع الجميع ولن نستثني أحدا من الحوار السياسي ومشاورات المرحلة الانتقالية بما في ذلك الجنرال خليفة حفتر".
فدول أوروبا تعارض التدخل العسكري وتدعم حكومة السرّاج وتقوم بأعمال حثيثة من أجل إنجاحها، فقد أبلغ وزير خارجية إيطاليا باولو جينتيلوني يوم 9/3/2016 (رويترز) البرلمان بأن "بلاده لن ترسل قوات عسكرية إلا بناء على طلب حكومة الوحدة الليبية" ورفض دعوات الأمريكان للتدخل العسكري قائلا: "إن حكومته لن تنجر وراء طبول الحرب.. ونقول لأي شخص يستغل تهديد داعش وهي بالفعل تهديد حقيقي ينبغي علينا الدفاع عن أنفسنا منه..، وإن التدخلات العسكرية ليست الحل.. وإن أي تدخل دون موافقة حكومة الوحدة سيدفع الفصائل الإسلامية المحلية للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية". وقد أعلن جنتيلوني خلال زيارة إلى العاصمة الليبية يوم 12/4/2016 "أن أولوية المجتمع الدولي تتركز على مساندة حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السرّاج في الاستقرار، قبل البحث في مساعدة هذه الحكومة لمواجهة التهديدات «الإرهابية».وأضاف أن «إيطاليا تدعم حكومة الوفاق الوطني.. لأن هذا الأمر سيفسح الطريق أمام استقرار ليبيا، وبعدها يمكننا أن نتعامل مع قضية تهريب البشر والمهربين والإرهاب. هدفنا مساعدة الحكومة في عملها على استقرار ليبيا».وقام سفراء بريطانيا وفرنسا وإسبانيا يوم 14/4/2016 بزيارة العاصمة الليبية لتأكيد دعم دولهم لحكومة السرّاج.
فالصراع محتدم بين أمريكا وأوروبا، فقال أوباما يوم 10/4/2016 في مقابلة مع تلفزيون فوكس نيوز "إن أكبر خطأ ارتكبه في فترة حكمه هو عدم نجاحنا في رسم خطة في ليبيا.. كنا قادرين على أن نفعل أكثر بعد التدخل في ليبيا.. وإن الدخول إلى ليبيا بعد القذافي كان من دون إعداد". ويشير إلى أن بريطانيا وفرنسا فوتتا على أمريكا الفرصة حيث تدخلتا بسرعة لتحافظا على النفوذ الأوروبي في ليبيا كما كان على عهد القذافي عميل بريطانيا. وقد نقلت التلغراف البريطانية يوم 11/3/2016 انتقادات أوباما لكل من بريطانيا وفرنسا حيث "حملهما مسؤولية سماحهما لليبيا بأن تتحول إلى فوضى في أعقاب التدخل العسكري هناك" وأكد أن "بعض حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وكذلك في أوروبا يتمنون جر الولايات المتحدة إلى صراعات، بعضها ليس له أهمية لصالح بلاده منتقدا بشكل لاذع السياسة الخارجية لرئيس الوزراء كاميرون" حيث قال: "إن رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون بدا مشتت الذهن بعد التدخل في ليبيا عام 2011..". وأشار إلى الخطأ الذي وقع فيه قائلا "هناك مجال للانتقاد، لأنه لدي ثقة بالأوروبيين نظرا لقرب ليبيا من أوروبا ومتابعتهم للوضع فيها". وكل ذلك يشير إلى أن الصراع سيبقى مستمرا بين الطرفين، لأن أمريكا لم تتمكن من بسط نفوذها في ليبيا وهي تسعى لتحقيق ذلك، ولأن غالب الوسط السياسي يميل إلى أوروبا وبخاصة بريطانيا، فإن أمريكا تعتمد على عميلها حفتر أن يكون له نفوذ قوي في الجيش، وعليه فهي تعرقل حكومة السراج إلى أن يصبح لحفتر الدور الأساس في الجيش وعندما تقترب من هذه النتيجة تقترب أيضاً من تسهيل عمل حكومة السراج.
إن جماعة الإنجليز يرفضون حفتر فلم يتمكن كوبلر من إدخاله في الحكومة لإرضاء أمريكا، وبين كوبلر حجم الخلاف بأنه كبير، وصور ليبيا بالمريضة ويحق للجميع أن يتدخل فيها بذريعة إنقاذها، وأمريكا تصر على التدخل العسكري وأوروبا وبخاصة بريطانيا تعارضه وتعرقله وتصر على إنجاح العملية السياسية، وإن كانت تضع التدخل العسكري في حساباتها، فقد قال وزير خارجية بريطانيا هاموند (بي بي سي 24/4/2016): "لا أحد يعلم كيف تتطور الأمور، ومن الممكن أن يتم طرح مشاركة القوات البريطانية بأي نوع من العمليات العسكرية جوية أو بحرية أو برية على مجلس العموم للنظر فيه".
ومن هنا يتبين أن حكومة السرّاج التي تدعمها أوروبا ستبقى مهددة بالسقوط وبالفشل، وأن ليبيا ستبقى ساحة للصراع الدولي وأهلها وقوداً له، ولن ينقذها إلا أن يرفض أهلها التدخل الدولي ويسقطوا العملاء، ويعملوا مع العاملين المخلصين لإنقاذهم بالعودة إلى أمجادهم قبل الغزو الاستعماري الذي بدأ منذ قرن وما زال مستمرا حيث كانوا جزءا من دولة كبرى وسوف تعود بإذن الله خلافة راشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع