تُعتبر زيارة الرئيس الإيراني لإيطاليا وفرنسا منعطفاً سياسياً مُهمّاً في تاريخ العلاقات الإيرانية الأوروبية، لذلك كانت الزيارة - في نوعها وحجمها وزخمها - على مستوى عالٍ من حيث كونها قفزة نوعية في تطبيع العلاقات الإيرانية مع جميع دول العالم الغربي، وأثمرت عودة إيران بقوة إلى الساحة الدولية، بعد أن عانت طويلاً من العزلة الأممية.
فقد رافق الرئيس روحاني في جولته الأوروبية وفد كبير مُكوّن من مائة وعشرين شخصاً يُمثّلون كافة القطاعات الاقتصادية والسياسية الرئيسية في الدولة، إضافة إلى اصطحابه لوزراء الخارجية والنفط والنقل والصناعة والصحة، وقوبل هذا الوفد الإيراني الضخم باهتمام فرنسي وإيطالي لافت، وقد شارك أساطين الصناعة، وأرباب المال، وأركان الاقتصاد، في كلٍ من فرنسا وإيطاليا القيادات السياسية فيهما، شاركوا في توقيع العقود والصفقات التي بلغت عشرات المليارات من الدولارات.
لقد كان الاقتصاد بمثابة بوابة العبور الإيراني إلى قلب أوروبا، بل كان بمثابة تأشيرة الدخول لإيران إلى ما يُسمّى بالعالم الحر، وكانت الصفقات الأسطورية التي تم إبرامها مع فرنسا وإيطاليا بمثابة شيفرة القبول الغربي لهذا الوافد الجديد الذي طالما كان يُتهم برعاية الإرهاب.
فشراء إيران لمائة وأربع عشرة طائرة إيرباص دُفعة واحدة لا تُساهم في إنعاش الاقتصاد الفرنسي المتعثّر فحسب، بل تُساهم أيضاً في إنعاش جُلّ الاقتصاد الأوروبي الذي يُشارك فرنسا في صناعة تلك الطائرات.
لقد نالت فرنسا نصيب الأسد من كعكة عودة إيران إلى عالم التجارة والمال والاستثمار مع الدول الغربية، فشملت العقود والصفقات بينهما قطاعات الطاقة والطيران والسيارات والقطارات والفنادق والصحة وغيرها، بحيث لم يبق في إيران شيء يستحق التنمية إلاّ وشاركت فيه فرنسا.
يقول بيتر جاتاز رئيس رابطة أصحاب الأعمال الفرنسية: "إن حاجات إيران هائلة، فالإيرانيون بحاجة إلى كل شيء، وهذا البلد لا يبدأ من الصفر، ولديه قوة عاملة مستواها التعليمي جيد جداً، ويتمتع بإمكانيات حقيقية للتنمية".
ففرنسا ترى في إيران ذات الثمانين مليون نسمة سوقاً رحبة لسلعها وصناعاتها، ويُساعدها في ذلك علاقاتها الاقتصادية والتجارية السابقة معها قبل فرض العقوبات الأمريكية على إيران، وعلى الشركات التي تعمل فيها، ومنها الشركات الفرنسية، والتي كان قد تمّ تعليق عملها هناك منذ العام 2004، لذلك أصبحت الحاجة ماسّة لفرنسا ولإيران - بعد رفع العقوبات الأمريكية عنها - لتصفية ما علق بينهما من عقود توقفت منذ ذلك التاريخ، حيث كانت فرنسا من أكبر المستثمرين في إيران في تلك الفترة.
ومن المرجح أنّ ألمانيا وبريطانيا ستلحقان قريباً بفرنسا وإيطاليا في أخذ حصتيهما من الكعكة الإيرانية، ولكن بمستوى أقل، وكذلك سائر الدول الأوروبية ذات العلاقة مثل إسبانيا وهولندا وبعض الدول الإسكندنافية.
أمّا بالنسبة للدول الكبرى الأخرى وبالذات روسيا والصين فإنّه وبالرغم من وجود علاقات قوية لإيران معهما، إلاّ أنّهما لا تمتلكان الإمكانيات الصناعية المتقدمة التي تُلبي الحاجات الإيرانية، بالإضافة إلى كون إيران من الدول الخاضعة للنفوذ الغربي من ناحية سياسية، وليس لروسيا أو الصين أي نفوذ حقيقي فيها.
وأمّا بالنسبة للدور الأمريكي في هذا الانفتاح الإيراني على أوروبا فهو بلا شك دورٌ فعّال وحاسم، ولولاه لما حصل هذا الانفتاح، فأمريكا هي التي قادت القوى الست الكبرى لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، وأمريكا هي التي قرّرت أنّ إيران قد تخلصت من منظومتها النووية العسكرية، ولم يعد بمقدورها حيازة سلاح نووي، وهي أول من باشر في رفع العقوبات عن طهران، وتلتها سائر الدول، وهي الدولة الأولى التي سبقت غيرها من الدول، وقامت بالإفراج عن مليارات الدولارات من الأرصدة الإيرانية المجمّدة في البنوك الأمريكية، وكانت من قبل هي أول من فرض العقوبات على الشركات الأوروبية التي كانت تستثمر في إيران.
فأمريكا إذاً هي التي فرضت العقوبات على إيران، وهي التي رفعت العقوبات عنها، وعودة أوروبا للاستثمار الاقتصادي في إيران إنّما كان بضوء أخضر من أمريكا، وبقبول منها.
فإيران في الحقيقة هي دولة تسير في ركاب أمريكا منذ ثورة الخميني في العام 1979، ولولا أمريكا ما نجحت الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه، فهي التي حيّدت الجيش الإيراني وقوى الأمن المختلفة والسافاك التابع للشاه، ومنعتهم من قمع الثورة، والجنرال الأمريكي هويزر قائد القوات الأمريكية في الشرق الأدنى آنذاك هو الذي أشرف بنفسه على خروج الشاه من إيران، وقد أفصح الشاه في مذكراته عن تلك الحقيقة المرّة بالنسبة إليه بقوله: "هكذا أخرجتني أمريكا من إيران وألقتني كالفأر الميت"، وإيران بعد الثورة هي التي ساعدت أمريكا في غزو أفغانستان والعراق باعتراف المسؤولين الإيرانيين أنفسهم، وما زالت إيران تُقدّم الخدمات لأمريكا في العراق وسوريا واليمن وغيرها من مناطق النزاع، وما زالت أمريكا تستخدم إيران كفزّاعة ضد دول الخليج لبيعها السلاح، وشحنها بالمزيد من القواعد الأمريكية، وما تزال أمريكا تستخدم إيران كعرّاب إلى جانب السعودية في نشر الطائفية المقيتة بين المسلمين، لإشعال الحرائق في البلدان العربية والإسلامية.
فإذا كان هذا هو واقع علاقة إيران بأمريكا، فهل يُعقل أنّ أمريكا لا تؤثّر في العلاقات الإيرانية الأوروبية؟
يبدو أنّ أمريكا بالسماح للأوروبيين بعقد هذه الصفقات المجزية الضخمة مع إيران، قد دفعت لأوروبا ثمن تأييد بريطانيا وفرنسا وألمانيا لها في الاتفاق النووي، وأعادت للأوروبيين جزءاً ممّا خسروه جرّاء العقوبات التي فرضتها أمريكا على الشركات الأوروبية أيام عزل إيران، وأثبتت بذلك أنّ ناصية الأوروبيين ما زالت بيدها، فهي التي تُعاقب متى شاءت، وترفع العقوبات متى تشاء، وأنّ على الأوروبيين أن يظلوا سائرين في ظل قيادتها (الحكيمة!) لكي ينعموا بمعيتها بالرخاء والوفرة الاقتصادية، وأنّ عليهم أنْ لا يشقوا عصا طاعتها، وأن يبقوا دوماً في حلفها، وجزءاً من قيادتها الأطلسية، وأنّ يُدْركوا أنّ التصارع معها، أو التشويش على سياساتها لن يفيد الأوروبيين بشيء، وقد يضرهم أكثر ممّا ينفعهم، وأنّها تتسامح معهم كثيراً، وتترك لهم منافع كبيرة كالسوق الإيراني المتعطش لاستثماراتهم، فهي قد أظهرت أنّها زاهدة فيه، وهي ليست بحاجة إليه، فلديها أسواق أخرى كثيرة، لذلك تركته خالصاً للأوروبيين.
ولأنّ أمريكا لا تُريد الاستثمار في إيران، وتركت أسواقها للأوروبيين، فقد قامت بعد أن رفعت العقوبات السابقة عنها، بفرض عقوبات جديدة عليها، تتعلق هذه المرّة بدعوى تطوير إيران لصواريخها الباليستية، لتجعل الإيرانيين يعيشون في حالة خوف منها بشكل دائم، ليظلوا تابعين لها، ويرجون عفوها، ولتُذكّر المستفيدين من العلاقات الاقتصادية معها بالحذر من الخروج عن سياساتها.
وهذا الأسلوب الأمريكي هو سياسة أمريكية قديمة تستخدمها أمريكا كثيراً في مناطق عدّة في العالم، كالسودان الذي ما زالت أمريكا تفرض عليه العقوبات، بالرغم من كل ما قدّمه لها من تنازلات بلغت حدّ شطر الدولة السودانية نفسها إلى نصفين.
هذه هي الطبيعة العدوانية لأمريكا ولسائر الدول الاستعمارية، حيث لا همّ لها إلاّ السيطرة والهيمنة والتكالب على موارد الدول الضعيفة، وامتصاص خيراتها، وبسط النفوذ الدائم عليها، لإبقائها في حالة ولاء مستمر لها، وتبعية مطلقة لأوامرها.
وهكذا فإنّنا نرى أنّ الصفقات الأوروبية مع إيران لا تُفيد الأخيرة على المدى البعيد، بل هي صفقات تدخل في سياق تقاسم المنافع بين الأوروبيين والأمريكيين، وكان الثمنُ الذي قدّمته إيران لهم فظيعاً، أضرّ بقرارها السيادي، وهو تخليها عن كل ما أنجزته من مجهودات هائلة، وعلى مدى سنين طويلة، في بناء أول ترسانة نووية ذاتية قامت إيران بتأسيسها بعرَق أبنائها، وثرواتهم، فتنازلت بذلك التخلي عن طريق عزّتها واستقلاليتها، لتعود مجرد دولة استهلاكية عادية، وسوقاً رخيصة للسلع والمنتجات الأجنبية التي تغزوها، شأنها في ذلك شأن سائر الدول المسمّاة بالنامية، بلا أمل لها في الانعتاق من قيد أمريكا وأوروبا، ولا مستقبل لها في النهوض والارتقاء.
رأيك في الموضوع