أعلن ستيفان دي ميستورا في الخامس من شهر شباط الجاري تعليق المفاوضات السورية في جنيف حتى الخامس والعشرين من شهر شباط الحالي، مشيراً إلى أنه "توقف مؤقت" وقال "إن هنالك عملاً كان يجب فعله من جانب الدول المعنية التي طالبت الأمم المتحدة أن تبدأ المفاوضات". وأعقب ذلك لقاء دي ميستورا بأعضاء مجلس الأمن في جلسة مغلقة، وقد صرح المندوب الفرنسي لدى الأمم المتحدة فرانسوا ديلاتر عقب انتهاء الجلسة المغلقة التي شرح خلالها دي ميستورا أسباب إعلان تعليق محادثات السلام السورية في جنيف، أن "مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، أبلغ مجلس الأمن الدولي، الجمعة، أن وحشية النظام السوري المدعوم من روسيا، كانت وراء تجميد مفاوضات جنيف".
إلا أن مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة السفير فيتالي تشوركين أنكر كل ما قاله نظيره الفرنسي، ونفى أن يكون دي ميستورا قد اتهم روسيا بتقويض محادثات جنيف3. وقال "لا، لا لم يخبرنا دي ميستورا بذلك ولا ينبغي أن ننسب إليه كلمات لم يقلها". وقال بأن هناك أفكارا جديدة تستعد روسيا "لطرحها على طاولة المفاوضات في 25 الشهر الحالي عند استئنافها"، ومن بين تلك الأفكار "وقف إطلاق النار، لكنني أعتقد أن المفاوضات قد تتأخر، بسبب الإصرار على وقف إطلاق النار أولا".
وفي بيان لوزارة الخارجية الأمريكية قالت فيه إن كيري دعا الحكومة السورية وداعميها إلى التوقف عن قصف المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة وخصوصا في حلب، وإنهاء حصارها للمدنيين طبقا لقرارات مجلس الأمن، وقال كيري "كان يجب عليهم بالفعل الوفاء بالالتزامات الحالية واستعادة ثقة المجتمع الدولي في نواياهم لدعم حل سلمي للأزمة السورية"، مضيفا أن الولايات المتحدة تتطلع إلى استئناف محادثات السلام في وقت لاحق هذا الشهر.
وعلى الرغم من الموقف المعلن للخارجية الأمريكية بالإشارة إلى العمليات الروسية كسبب لتعليق المفاوضات إلا أنه ورد في تقرير أعده موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، "أن وزير الخارجية الأمريكية، جون كيري، أخبر عاملتين في مجال الإغاثة والمساعدات الإنسانية لهما علاقة بسوريا بأن على البلد أن تتوقع ثلاثة شهور أخرى من القصف الذي "سيُفني" المعارضة. وذلك خلال حوار دار على هامش مؤتمر المانحين في لندن، وبحسب ما صرحت به لموقع "ميدل إيست آي" ناشطة في مجال الإغاثة، طلبت عدم الكشف عن هويتها حماية للمنظمة التي تعمل فيها، قال كيري بالحرف الواحد: "لا تلوموني – اذهبوا ولوموا المعارضة"... وأوضحت الناشطتان أن كيري أخبرهما بأن تتوقعا ثلاثة شهور من القصف سيتم خلالها "القضاء على المعارضة قضاء مبرما".
وليس هذا الموقف الوحيد لكيري الذي يقوم فيه بتوجيه التهديدات للمعارضة فقد سبق ذلك قبيل ذهاب الوفد المفاوض من معارضة الرياض إلى جنيف، فقد كشف "سفير" الائتلاف السوري المعارض في باريس منذر ماخوس أن كيري قال في الاجتماع مع رئيس الهيئة التفاوضية العليا للمعارضة رياض حجاب في الرياض إنه "عليهم أن يذهبوا إلى جنيف ضمن الشروط المفروضة عليهم، وإلا فسيخسرون دعم حلفائهم".
ولم يكتف كيري بذلك فقد نقل موقع العربي الجديد في24/1/2016 عن مصدر رفيع في المعارضة السورية وصف فيه لقاء جون كيري مع رياض حجاب في الرياض بـ ("الكارثي والسيئ جدا". وكشف لـ"العربي الجديد"، أن "كيري حمل معه رسائل روسية وإيرانية واضحة"، مهددا المعارضة السورية في حال عدم الالتزام بها". وقال المصدر، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، إن "كيري قال إن ما سيجري في جنيف3، محادثات، وليست مفاوضات، وستفضي إلى تشكيل (حكومة وحدة وطنية)، وليس هيئة حكم انتقالية". وأضاف أن "وزير الخارجية الأميركي قال لوفد الهيئة إن من حق الموفد الأممي دي ميستورا التدخل في تشكيل وفد المعارضة وتعيين مستشارين له، وإن إجراءات الثقة التي تطالب بها المعارضة قبيل اجتماعات جنيف كإطلاق المعتقلين، وفك الحصار عن المدن المحاصرة، وإيقاف قصف المدنيين، وإدخال مساعدات إنسانية وسواها هي جزء من المحادثات التي ستجري في جنيف". وبين المصدر أيضاً، أن "كيري أكد خلال الاجتماع أن من حق بشار الأسد الترشح للرئاسة في انتخابات رئاسية ستجرى لاحقاً).
فالموقف الحقيقي للخارجية الأمريكية والذي عبر عنه جون كيري بصراحة لرياض حجاب ومن معه، يعني أن العمليات العسكرية التي يقوم بها النظام وإيران وميليشياتها بإسناد روسي تجري بموافقة أمريكا بل بحسب ما تريده أمريكا، حتى قرار مجلس الأمن الذي نص على هيئة حكم انتقالي في سوريا لم تعد أمريكا تريد ذلك بل استبدلت به فكرة "حكومة وحدة وطنية"، وهذه الإملاءات الأمريكية العلنية للوفد المفاوض قبل البدء بالمفاوضات، مع ما يقابلها من حالة تنمر مارسها وفد النظام السوري، والتصريحات النارية التي رافقت ذهابهم وإيابهم، وعدم استعداده لتقديم تنازلات، بالرغم من أن امريكا لو أرادت لتغير خطابه وأبدى مرونة ما لتسهيل اللقاءات، وسير العملية إلا أنها لم تفعل، مما يدل على أن أمريكا وإن كانت قد رتبت جنيف3 على عجل من أمرها وظهر عليها أنها تريد المضي في المفاوضات والوصول إلى نتائج بحسب قرار مجلس الأمن الذي وضع زمنا للسير في الحل السياسي في سوريا، إلا أن ما رافق بدء محادثات جنيف وما سبقها من تغير في لهجة الخطاب الأمريكي، وظهور موقفها الحقيقي من النظام السوري بشكل علني، مع تصريحات كيري خارج السياق الدبلوماسي، والهجمة العسكرية المكثفة التي رافقت المباحثات والتي حقق بها النظام السوري تقدما في بعض الجبهات، يدل هذا كله على أن أمريكا لا تريد أن تسير المفاوضات سيرا سريعا، وتريد أن يكون تقطعها متوازيا مع المكاسب العسكرية التي يمكن أن يحققها النظام بالدعم والإسناد الروسي. لتتمكن فيما بعد من فرض الحل الذي تحافظ به على النظام العميل، وتضعف به الثورة أو تحاصرها خارج ما يسمى سوريا المفيدة.
يقول فابريس بالونش (أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في "جامعة ليون 2"، وزميل زائر في معهد واشنطن) (تُركز استراتيجية موسكو على ثلاثة أهداف: الأول هو حماية المنطقة العلوية الساحلية حيث نشرت روسيا قواعدها اللوجستية، والثاني تعزيز موقع الأسد ودفع المتمردين بعيداً عن المدن الكبرى، حمص وحماة واللاذقية وحلب ودمشق، والثالث قطع خطوط الإمدادات الخارجية للمتمردين. وقد تم تحقيق الهدفين الأولين إلى حد كبير: فلم تقع هجمات على اللاذقية أو طرطوس التي يمكن أن تهدد القواعد الروسية فيها، كما لم تقع أي مدينة كبرى تحت سيطرة المتمردين. وعلى العكس من ذلك، أخلى المتمردون حي الوعر بحمص في كانون الأول/ديسمبر بعد أن يئسوا من وصول أي مساعدة. والآن وبعد أن قُطعت طريق اعزاز، فقد تم الوصول إلى نصف الطريق نحو تحقيق الهدف الثالث. ويبدو أن روسيا وحلفاءها قادرون على تحقيق طموحاتهم، فالضعف في القوة البشرية الذي يتخبط فيه جنود الأسد يعوّض عنه التفوق الجوي الكلّي وتعزيزات الميليشيات الشيعية).
وهذه التي يسميها بالونش استراتيجية موسكو، تشكل الأهداف التي تريد أمريكا تحقيقها في سوريا بالاستعانة بروسيا، وعند اكتمال تحقيق هذه الأهداف تكون أمريكا قد حاصرت الثورة، ووضعتها في الزاوية بعيدا عن التأثير الفعال على النظام، وإعادة توجيه المعركة باتجاه ما يسمى الحرب على الإرهاب.
إنه قد ظهر بلا شك بأن أمريكا هي السند الحقيقي للنظام في سوريا، وأنها هي من يسعى للحفاظ على عميلها بشار، وأنها هي من تتخذ الفتك بالضعفاء والنساء والأطفال وسيلة للقضاء على الثورة، وأنها ... وأنها ...، ومع هذا نرى من عاين الموقف الأمريكي بنفسه وتكشفت له الحقائق بعين رأسه، نراه متشبثا بحبال أمريكا وحبال أذنابها، ووعودها الزائفة، ويترك التمسك بحبل الله المتين، ولا ينحاز للمخلصين العاملين لقطع حبال أمريكا ونفوذها في الأمة كلها!، ونرى غيره ممن هو قريب من حاله، مترددا في موقفه لم يحسم أمره بعد، يمسك بالحبل تارة ويتركه أخرى، فما زالت وساوس الشيطان تراوده ببعض الآمال إن لم يكن في أمريكا ففي الأذناب!
وعلى الرغم من تخاذل هؤلاء وتردد أولئك فإن وعد الله سبحانه لا شك سيتحقق للمستمسكين بالعروة الوثقى وبحبله المتين، ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾.
رأيك في الموضوع