أعلنت المستشارة الألمانية ميركل "إنه حان الوقت لإصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ليكون مُعبِّرا بحق عن توزيع القوى في أنحاء العالم في القرن الحادي والعشرين".. فما الذي قصدته المستشارة من قولها هذا، هل هو العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي؟؟ وما حقيقة ما تتمتع به ألمانيا من قوة سياسية واقتصادية وعسكرية بما يسمح لها من السير في هذا الاتجاه.. وما هو موقف بقية الدول وبخاصة أمريكا من الطرح الألماني؟
نجيب عن هذه التساؤلات متعرضين لمجلس الأمن الدولي نفسه الذي تأسس مع هيئة الأمم المتحدة عام 1945 من قبل أمريكا والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا بالإضافة إلى الصين باعتبارها دولا منتصرة في الحرب العالمية الثانية لتفرض إرادتها على الدول المهزومة كألمانيا واليابان، ولتدير العالم حسب إرادتها ومصالحها، وتحول دون بروز دول تتحداها تحت مسمى حماية السلم العالمي. وأعطت لنفسها صلاحيات اتخاذ القرارات الدولية وفرضها على الآخرين وأعطت حق النقض (الفيتو) لتحصن نفسها من أن يصدر ضدها أو ضد حلفائها أي قرار لا ترغب فيه، ليصبح الظلم مشروعا عالميا.
ومع ذلك فإن ألمانيا دخلت الأمم المتحدة في وقت متأخر عام 1973، وقبلت بمواثيق هذه الهيئة وبدأت تشارك في مؤسساتها. وبقيت هكذا إلى أن بدأ الإحساس يقوى عندها لتعود دولة كبرى، بعدما أشغلتها أمريكا بالاقتصاد وأبعدتها عن الصناعة الحربية وعن التفكير السياسي العالمي. فكان الشغل الشاغل للألمان دولة وأحزابا وشعبا هو الاقتصاد والمسائل الداخلية. ولم يكن لهم عمل خارجي إلا بقدر ما كانت إحدى الدول الكبرى تعمل على تسخيرها لصالحها في مسائل خارجية أو ضد بعضها البعض.
ومرت السنون حتى جاءت سنة 2003 وقامت أمريكا بغزو العراق، وصادف ذلك وجود حكم ديغولي بفرنسا بقيادة شيراك يعمل على الوقوف في وجه الهيمنة الأمريكية، فاستطاع أن يجذب إليه ألمانيا شرودر الذي كان يرأس الحكومة، فشكلا مع روسيا محورا يعارض السياسية الأمريكية. فنجحت هذه الدول نوعا ما في ذلك، إلى أن اضطرت أمريكا لأن تلتفت إلى أوروبا وتعطيها بعض الاعتبار بعدما وصفتها بأنها أوروبا القديمة عليها أن تتنحى جانبا وتترك المجال لأمريكا.
وبعد ذلك تشجعت ألمانيا للقيام بأعمال دولية، وحصل أن تشجعت على المطالبة بعضوية دائمية في مجلس الأمن، فجذبت اليابان والبرازيل والهند للفكرة، لتشكل مجموعة الدول الأربع المطالبة بذلك، وتقدمت هذه المجموعة برئاسة ألمانيا يوم 11/7/2005 باقتراح لتوسيع مجلس الأمن من عضوية 15 إلى 25 عضوا، وأن تضم ستة أعضاء دائمي العضوية وأربعة غير دائمين. وأيدتها فرنسا، وكذلك بريطانيا التي اقترحت صيغة مختلفة لموضوع العضوية الدائمية حيث قال ممثلها في الأمم المتحدة يومئذ: "إن بريطانيا تدعم الاقتراح ولكنها لا تعتقد أنه من الضروري توسيع حق النقض ليشمل الأعضاء (الجدد)". وأشادت بالمساهمة المالية الألمانية اليابانية بنسبة 28% في الأمم المتحدة، وذلك بخبث إنجليزي لتقوية موقفها في وجه أمريكا وهيمنتها على مجلس الأمن. ولكن أمريكا أعلنت أنها "ستعارض أي اقتراح يجعل صلاحيات مجلس الأمن أقل فعالية".
ولكن ألمانيا لم تيأس ولم تلغ اقتراحها ولا مجموعتها الأربع وبقي عالقا في ذاكرتها السياسية، ومر عقد من السنين، وقد زاد شعورها بالصيرورة دولة كبرى بعد أن استطاعت فرض سياستها الاقتصادية على أوروبا، وفرضت على اليونان اتفاقية حسب شروطها رغم معارضة أمريكا وفرنسا، وقد نجحت في المشاركة بأعمال دولية ذات شأن؛ منها ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، ومنها ما يتعلق بمشكلة أوكرانيا فارتفع شأنها، وبدأت تشارك في أعمال عسكرية خارجية في البوسنة وكوسوفو وأفغانستان لتكتسب خبرة عسكرية في التدخل الخارجي، فدعت مجموعة الدول الأربع يوم 26/9/2015 على هامش اجتماعات الأمم المتحدة بنيويورك، وخطبت المستشارة الألمانية قائلة "لسنا نحن الأربع فقط، ولكن هناك دولا أخرى كثيرة لا توافق على بنية مجلس الأمن وأسلوب عمله". ودعت الأمم المتحدة "لتحقيق إصلاح في بنية مجلس الأمن التابع لها وتوسيع نطاقه" وأكدت أنه "لا بد أن تنعكس موازين القوى الحقيقية على مستوى العالم بشكل أفضل مما عليه حاليا". وقالت: "يجب ألا يظل كل شيء مثلما هو عليه، نريد أن نغير عالمنا ويمكننا ذلك".
وذكرت بعض الدوائر الحكومية الألمانية أنه "ليس هناك أفق لحدوث تغيير قريب في بنية السلطات في مجلس الأمن، ولكن مجموعة الأربع لا تعتزم التخلي عن مساعيها". أي أن ألمانيا إن لم تنجح هذا العام فسوف تواصل عملها في السنوات القادمة وهي عازمة على ذلك. ولهذا قال وزير خارجية روسيا لافروف يوم 14/9/2015 مستبقا تلك الاجتماعات: "إن عدة بلدان اقترحت إنشاء فئة جديدة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وأعضاء شبه دائمين مع الحق في إعادة انتخابه على الفور". أي أن روسيا تقبل ضمنيا بهذا الاقتراح وتقبل بدخول ألمانيا في مجلس الأمن بعضوية شبه دائمية أي أن تكون عضوا لسنتين ولكن تجدد عضويتها باستمرار وبدون التمتع بحق النقض. لأن روسيا من أشد الدول خوفا من عودة ألمانيا دولة كبرى.
وعقب ذلك قال رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة سام كوتيسا "إذا لم يتم إجراء إصلاحات في الأمم المتحدة ربما يأتي الوقت الذي كان فيه دور للأمم المتحدة ويصبح غير ذي صلة. وخاصة في مجالات مثل السلام والأمن". أي أن هناك خوفا من تفكك الأمم المتحدة أو تمرد بعض الدول على قراراتها. حتى إن بعض الدول ترفض وجود حق الفيتو للدول الخمس. فهناك ضغوطات قوية من بعض الدول للحصول على مقعد دائم.
إن ألمانيا تكمن فيها خصائص الدولة الكبرى ولديها إمكانيات تؤهلها لذلك. وإن الشعور بصيرورة الدولة الكبرى كامن لدى شعبها، فدائما يريد أن يكون قائدا ومسيطرا، فيشعر في نفسه أنه أهل لذلك، وينظر إلى الآخرين نظرة متعالية، إلا إذا كانوا أقوى منه مسيطرين عليه، ولكنه يعمل على التخلص منهم. فعمل على التخلص من سيطرة فرنسا وبريطانيا الدولتين اللتين تغلبتا عليه في الحرب العالمية الأولى، وأصبح دولة كبرى وكاد أن يصبح الدولة الأولى عالميا. وبعد هزيمته في الحرب العالمية الثانية لم يستسلم فبدأ يستعيد قواه ويعمل على التخلص من تبعاتها ومن نفوذ الدول الكبرى المنتصرة عليه فيها. فلا يقبل أن يبقى خاضعا لدولة أو تابعا لأخرى. فيريد أن يكون بمصاف الدول الكبرى ولا يرضى أن يكون بمصاف الدول الصغرى أو التابعة.
فشعب ألمانيا يثق بنفسه ثقة مفرطة رغم تعرضه لهزائم كبرى كلفته سقوط دولته وتدمير اقتصاده وبلاده واحتلالها وخسارته لأرواح الملايين من أبنائه، وفي كل مرة يقوم ويبني نفسه ودولته ويستعيد قوته، فلا يستسلم. ولا يخشى القتال، فالحرب سجية من سجاياه. فرغم دعاوى السلام التي نشرتها أمريكا في ألمانيا وإشغالها بالاقتصاد وإلهاء الناس بجمع المال والتمتع به وتحقيق الرفاهية، ولكننا نرى أن سجيته العسكرية لم تمت، وهي التي تخيف جيرانه الأوروبيين، وكل حركة من ألمانيا يقول الجيران: رجع الألمان.
إن لدى ألمانيا الإمكانيات المادية التي تؤهلها لأن تصبح دولة كبرى، فلديها اقتصاد يعد الثالث عالميا، وصناعة قادرة على تحويلها إلى صناعة عسكرية في أقرب وقت عندما توجد الإرادة السياسية، وهي تنتج حاليا بعض الصناعات العسكرية التقليدية المهمة بشكل متطور، ولديها المعنويات العالية وهي الثقة بالنفس والقدرة على قهر الأعداء، فشعبها مثابر ونشيط جدا، والدولة حازمة في تطبيق خططها وسياستها وجادة في تحقيق مشاريعها، وشعبها من أكثر الشعوب طاعة لقائده وثقة بدولته، فلا يتمرد عليها، بل محاسبته لها بناءة.
ولديها الفكرة التي يمكن أن تحملها للعالم، ولذلك رأيناها في موضوع لاجئي سوريا تبث رسالتها للعالم عامة وللمسلمين خاصة لأنها تدرك ثقلهم وتململهم لأن يصبحوا دولة إسلامية عظمى، فتريد أن تثبت أنها قادرة على تحمل أعباء المسؤوليات العالمية كدولة كبرى، وهي تغذ السير نحوها، ولذلك تسعى لأن تصبح عضوا دائما بمجلس الأمن الدولي لتكون في مصاف الدول الكبرى التي تتخذ القرارت الدولية وتفرضها على العالم. ومن المحتمل أن تحقق ذلك على مدى ليس بعيدا جدا للحيثيات التي ذكرناها.
رأيك في الموضوع