لقد قلنا في موضوعنا السابق تحت عنوان "الفراغ السياسي في الموقف الدولي – القسم الثاني: سقوط أمريكا" إن أمريكا على وشك السقوط عن موقعها في الموقف الدولي كدولة أولى على الأقل، ولكن ليس من الضروري أن يتم ذلك بين عشية أو ضحاها، لأن سقوط الدول الكبرى يحدث عادة على مراحل عندما يبدأ التراجع في مختلف المجالات الفكرية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والصناعية وغيرها، ولا تستطيع أن تجد حلولا جديدة ناجعة، وتكرر تطبيق الحلول القديمة نفسها فتنتج المشكلات نفسها وتستمر فيستعصي حلها، فتتحول إلى أزمات مزمنة، وتصبح كالأمراض المزمنة لدى الإنسان الذي يتعايش معها بتناول المسكنات والحقن والمخففات من تضاعف المرض والعمليات الجراحية التي تجري له بين الحين والآخر وغير ذلك حتى يجيء أجلها فتسقط. إلا أنه في الحروب الكبرى تسقط سريعا إذا هزمت فيها كما حصل مع ألمانيا واليابان وإيطاليا في الحرب العالمية الثانية، وكما حصل مع ألمانيا والدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وكما هزمت فرنسا نابليون عام 1815 بعدما أصبحت الدولة الأولى في العالم، وكذلك ما حصل للدول الكبرى قديما مثل الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية هزمتا في الحرب أمام الدولة الإسلامية فسقطتا نهائيا وإلى الأبد.
ونريد أن نسلط الضوء هنا على ما كتبه مفكرون أمريكيون عن التراجع الذي تعاني منه بلادهم أمريكا الدولة الكبرى وتقييمهم له. وهو ما يؤكد توقعاتنا لسقوط أمريكا عن مركز الدولة الأولى وحدوث الفراغ السياسي في الموقف الدولي. وقد قلنا إن تتبع عوامل ضعف دولة كبرى كأمريكا أمر بالغ التعقيد ويحتاج إلى دراسات تفصيلية وتحليلية، وقد اكتفيت بالإشارة إلى أهم تلك العوامل بغية تسليط الضوء عليها علها تجد من يوسعها بحثاً وتقصياً. وهنا أريد أن أواصل البحث والتقصي عن ذلك والاستدلال عليه بمراقبة الوضع الداخلي والعالمي المتعلق بها والإتيان بشهود من أهلها مسؤولين ومفكرين ومتابعين لسير بلادهم أمريكا.
فقد نقلت صفحة الجزيرة في 18/3/2015 عن مجلة بروجيكت سينديكيت مقالة نشرتها لمدير أبحاث إدارة الأعمال في "معهد الهند والصين وأمريكا" دان شتاينبوك تحت عنوان "تراجع الإبداع العسكري الأمريكي" قال فيها: "إن الولايات المتحدة معرضة لخطر فقدان قدرتها العسكري المتفوقة، ربما لا تزال هي الأكثر تقدما في العالم... ولكن استمرار زعامة أمريكا تقنيا لم يعد مؤكدا على الإطلاق. فمنذ عام 2005 خفضت وزارة الدفاع الأمريكية الإنفاق على البحث والتطوير بنسبة 22%، وفي عام 2013 وكجزء من صفقة لتفادي المواجهة بشأن سقف الديون أمر الكونغرس الأمريكي بتخفيضات تلقائية في الإنفاق بلغت نحو 1،2 ترليون دولار. والواقع أن هذه الخطوة التي تتطلب خفض الإنفاق على العديد من البرامج بما في ذلك العديد من المبادرات البحثية الدفاعية، وصفتها إدارة الرئيس باراك أوباما بأنها "شديدة الإضرار بالأمن القومي". وإذا استمر تآكل الإبداع في الولايات المتحدة فلن تعاني القدرات الدفاعية وحدها، بل إن البلاد كاملة ستتعرض لخطر انحسار إبداعها التجاري وقدرتها التنافسية" ويقول: "من ناحية أخرى تعاني الولايات المتحدة من تفريغ قلعتها الصناعية، فبسبب منافسة الصين المتزايدة وغيرها من الاقتصادات الناشئة الكبيرة، تآكلت قدرات التصنيع الأمريكية، الأمر الذي يهدد قدرة أمريكا على إنتاج المنصات الدفاعية الأكثر تطورا على المستوى التقني.." وقد أشار إلى تصريحات وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيغل قبل عدة أشهر حول هذا الموضوع فاختتم مقالته قائلا: "إن السياسة التي تهدف إلى استعادة الإبداع الدفاعي والإنتاج في الولايات المتحدة من شأنها أن تضمن احتفاظ واشنطن بزعامتها التقنية العالمية وقدرتها التنافسية التجارية. ولكن من الراجح وهو أمر مؤسف أن خليفة هيغل (في وزارة الدفاع) سيكتشف أن الاستراتيجية الإبداعية الشاملة من ذلك النوع الذي تصوره سلفه، ربما تكون غير قابلة للتطبيق في عصر يتسم بالميزانية المحدودة والخفض التلقائي للإنفاق".
وكان وزير الدفاع الأمريكي السابق تشاك هيغل (كما نقلت رويترز 16/11/2014) قد أقر "بتراجع التفوق التكنولوجي لدى وزارته" معلنا بأن "التفوق التكنولوجي لوزارة الدفاع الأمريكية يتضاءل. في الوقت الذي يواجه فيه التفوق العسكري خطرا نتيجة لانتشار التكنولوجيا"، وقال: "إن التكنولوجيا والأسلحة التي كانت فيما مضى مجالا قاصرا على الدول المتقدمة أصبحت متاحة لسلسلة كبيرة من الجيوش وقطاعات لا تمثل دولا" وأشار إلى أن "روسيا والصين تستثمر بقوة في برامج التحديث العسكري لتقويض تفوقنا التكنولوجي دافعة بطائرات وغواصات متطورة وصواريخ أبعد وأكثر دقة". وقال إنه: "يتعين على وزارة الدفاع الأمريكية مواصلة تحديث قدرات بلادنا وتعزيز تفوقها العملي والتكنولوجي، وعلينا أن نفعل ذلك من خلال القيام باستثمارات جديدة طويلة الأمد في مجال الابتكار". وهذه الجملة الأخيرة اعترض عليها الكاتب وشكك في قدرات أمريكا على مواصلة تحديث قدراتها وتعزيز تفوقها العلمي والتكنولوجي.
لقد ركز مدير "معهد أبحاث الهند والصين وأمريكا" على خفض الإنفاق وجعله السبب الرئيس في تراجع الإبداع العسكري والاستمرار في تآكل الإبداع أي هو راجع إلى القدرات المالية ومشاكل الاقتصاد والأزمة المالية التي ما زالت تداعياتها مستمرة. ولكن ما سبب كل ذلك حتى تضطر أمريكا إلى خفض النفقات على مشاريع يجب أن تنفق عليها وليس بمقدورها فعل ذلك، وقد اضطرت إلى خفض الإنتاج أيضا، وقد تفجرت الأزمة المالية وظهر العجز عن حل المشاكل الاقتصادية. وقد ركزنا على ذلك في موضوعنا "الفراغ السياسي في الموقف الدولي" "القسم الثاني: سقوط أمريكا" تحت باب "أهم عوامل سقوط أمريكا عن مركز الدولة الأولى في العالم" في العامل الثالث "تضعضع الناحية الاقتصادية" فقلنا: "ومن جهة ثانية فإن المديونية الأمريكية والعجز في الميزانية وصلت إلى حدود لا يمكن تصورها في دولة، حيث وصلت المديونية إلى أكثر من 16 ترليون دولار. وأقل من هذا المبلغ بكثير من شأنه أن يسقط الدولة. وسبب بقائها رغم ذلك كون الدولار عملة عالمية يتحكم في اقتصاد العالم، وسيطرتها على الأسواق المالية العالمية وعلى المنظمات الاقتصادية والمالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. فإذا تخلت دول العالم أو قسم مهم منها عن التعامل بالدولار، فمن المحتمل أن يسبب ذلك انهيارا للاقتصاد الأمريكي، ثم سقوطاً لها عن مركزها كدولة أولى عالمياً. ومن جراء ذلك فإنه من المحتمل أن تسقط هذه المنظمات المالية العالمية فيختل التوازن الدولي. فإذا تخلت دول العالم عن التعامل بالدولار أو عن كونه عملة عالمية وكونه احتياطياً لها أو رجعت إلى نظام الذهب والفضة فإن الدولار سوف يتحول من كونه عملة عالمية تسيطر على العملات والأسواق وعملة تستخدم كاحتياط نقدي للدول، لأن دول العالم سوف تتعامل بالعملات المستندة إلى الذهب والفضة وتترك التعامل بالدولار كمجرد عملة وثيقة تعتمد على الثقة بأمريكا أو على الهيمنة الأمريكية على اقتصاديات العالم وتتخلى عنه كاحتياطي نقدي. وإذا طالبت دول العالم بالديون التي لها على أمريكا والتي هي على شكل سندات خزينة أمريكية شبه مفلسة، فإن أمريكا لن تستطيع أن تدفع هذه الديون وبذلك ستصبح في مأزق كبير وتنعدم الثقة بها وتعلن إفلاسها، وقد أفلست العشرات من مدنها والمئات من بنوكها والآلاف من شركاتها ومحلاتها التجارية والصناعية. ومديونيتها الهائلة كافية لإسقاطها عن مرتبة الدولة الكبرى الأولى عندما تتفاقم الأمور وتتحرك الدول بشكل جاد وقوي لمحاسبتها واسترجاع أموالها".
وعندما نلقي نظرة على آراء المفكرين الأمريكيين في إيجاد الحلول لهذه الأزمات يتبين لنا أنهم عاجزون عن إيجاد حلول جديدة، بل هم يراوحون مكانهم ولا يجدون الحلول المجدية بسبب التراجع الفكري لديها واستنفاد ما لديهم من أفكار وحلول فصاروا يدورون في حلقة مفرغة، وصاروا يرجعون أزماتهم إلى مشاكلهم السياسية بين الجمهوريين والديمقراطيين وهم متناقضون فينادون إلى الرجوع إلى المبدأ الرأسمالي وتطبيقه بحذافيره ومنه الحرية الاقتصادية، مع العلم أن تطبيقه هو الذي جلب الويلات والأزمات مما جعلهم يتخلون عن تطبيقه ويعملون على تطبيق سياسات تخالفه.
وقد نشرت صفحات على الشبكة العنكبوتية مقتطفات مما كتبه مفكرون أمريكيون، فمنها ما كتبه المفكر الأمريكي "بول كروجمان" الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في كتابه "أنهوا هذا الكساد الآن" يطرح فيه أهم الأفكار لديه التي يمكن تبنيها في التعامل مع المشكلات الاقتصادية في الولايات المتحدة. فيقول "إن الاقتصاد الأمريكي يواجه حالة كساد واضح وإن لم يصل إلى الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي". وقد أرجع الإخفاق الأمريكي في التعامل مع أزماته المالية والاقتصادية التي هزت أمريكا منذ تفجر الأزمة المالية عام 2008 إلى "الصراع والشد والجذب بين الجمهوريين والرئيس أوباما، وهو الصراع الذي يقوض من الجهود الأمريكية للخروج من أزمتها الاقتصادية على الرغم من الجهود التي اتخذتها إدارة أوباما بضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي، ويعتبر ذلك هو الدواء الناجع لأي أزمة مالية". مع العلم أن هذا الضخ الذي يدعو له المفكر الأمريكي قد تم بكميات ضخمة، ولكن لم يعالج الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي. وختم المفكر الأمريكي كتابه بنصائح ليست جديدة وهي مطبقة، حيث دعا إلى خفض سعر الفائدة الربوية ودعا الإدارة الفدارالية لمساعدة الإدارات المحلية في الولايات وكذلك مساعدة أصحاب الرهون العقارية على إعادة جدولة ديونهم وفقا لسعر الفائدة المنخفض حاليا. مما يدل على أنه ليس لديه شيء جديد يقدمه لحل أزمات بلاده المستعصية وسببها النظام الرأسمالي نفسه وليس النظام السياسي لأنها كانت قد بدأت على عهد الرئيس الجمهوري السابق جورج بوش الابن وبدأت عملية الضخ على عهده حين أعلن عقب تفجر الأزمة عام 2008 عن ضخ أكثر من 700 مليار دولار، وجاء أوباما ليواصل هذه العملية. مما يعني أن أمريكا ما زالت تئن تحت وطأة الأزمة المالية وتعاني من تداعياتها ولم تخرج منها ولم تستطع أن تجد الحلول للخروج منها رغم التحفيزات الكثيرة؛ منها خفض الفائدة الربوية لتصل إلى حد الصفر، ومنها خفض شراء الأسهم المتعثرة للشركات، حيث أجرى تخفيضا في شراء هذه الأسهم أو شراء الأصول بمقدار 10 مليارات شهريا من أصل 85 مليار دولار ليظهر تعافيا في الاقتصاد أو تحسنا في سوق العمل إلا أن ذلك لم ينفع كثيرا، لأن الأزمة عميقة جدا ولأن النظام الرأسمالي دائما حاملٌ بالأزمات ويولدها ولا يمكن أن يتخلص منها. فطبيعته توجد الأزمات والمشاكل وتسبب المزيد من الشقاء والتعاسة للبشر. وهذه الأزمة من الأمور التي هزت موقف أمريكا الدولي، ولذلك ما زال موقف أمريكا الدولي مهزوزا بسببها ولأسباب أخرى ولا يجري الحديث عنها كثيرا أو بصورة لافتة للأنظار، وذلك للمحافظة على الشكل الظاهري لأمريكا الذي يبدو كأنها في ألف عافية، ولكنها تعاني من مغص في معدتها ومن ضغط في قلبها وصداع في رأسها وسرطان هنا وهناك في جوانب جسمها، فطغت عليها الأمراض المستعصية والمزمنة، واعتادت عليها وكأنها طبيعية؛ فما أن تسمع اسم أمريكا وإلا يربط بكذا وكذا من المشاكل والأزمات، وأصبح الناس يعتبرونها أُمَّ المشكلات وصاحبة الإحصائيات المخيفة في كل باب. ولكن المسألة المهمة هي عدم وجود دولة في العالم تعمل على إبراز ذلك والتركيز عليه وتوظيفه في محاربتها والتشهير بها وتسفيهها ومن ثم الاستفادة من هذا الوضع للعمل على إسقاطها من مركزها المهزوز ليتخلص العالم من شرها المستطير ومن تجبرها في الدول والشعوب ومص دمائها ونهب خيراتها بدولارها الذي لا يساوي الحبر الذي طبع به وغير ذلك من الأساليب والوسائل التي تستخدمها.
وكتب "جيم ديمينت" في كتابه الذي أطلق عليه اسم "الآن أو أبداً: إنقاذ أمريكا من الانهيار الاقتصادي" فيما يتعلق بالتراجع الأمريكي على المستوى الاقتصادي والذي يجعل الولايات المتحدة على حافة الانهيار المالي أن "سبب ذلك هو الإنفاق الحكومي غير الرشيد والديون الأمريكية والأزمات المالية المتتابعة". ولذلك يعتبر الولايات المتحدة "على شفا كارثة اقتصادية ما لم تحقق تغيرا جذريا في السياسات الحالية المتبعة". ولكن الكاتب لم يقدم حلولا جذرية بل أرجع هذه الأزمات إلى السياسة المتبعة حاليا وإلى الصراع السياسي. وحمّل الجمهوريين المسؤولية، فاعتبر "الجمهوريين هم أيضا مشتركين مع الديمقراطيين في الخطأ نفسه. والحل لا يكمن في الانتخابات بهزيمة أو تغيير حزب بعينه وإنما في تغيير السياسات المتبعة". ولكن نقول له إن السياسات تبنى على الأفكار، فالسياسات الحالية مبنية على الأفكار الرأسمالية التي تتبناها أمريكا فهي عاجزة عن إيجاد الحلول، ولذلك يجب تبني أفكار جديدة صحيحة نابعة من عقيدة صحيحة، وهي ليست موجودة في مبدأ سوى الإسلام.
وكتب جون تايلور في كتابه الذي أطلق عليه اسم "المبادئ الأولى: خمسة مفاتيح لاستعادة ازدهار أمريكا" مقدّماً خطة لإعادة بناء مستقبل الولايات المتحدة من خلال "العودة إلى المبادئ الأساسية التي تأسست عليها الولايات المتحدة لضمان تخطي تحديات الركود الاقتصادي وفي مقدمتها اتباع مبدأ الحرية السياسية وسيادة القانون والاعتماد على الأسواق وتوفير حوافز قوية لتحقيق النهضة المنشودة". ويرى كما يرى غيره الكثير من الكتاب الأمريكيين أن "السياسات التي تم اتباعها إبان الأزمة المالية بنهاية عام 2008 هي ما أدت إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية عام 2009"، ويؤكد على أن "اتباع مبدأ الحرية الاقتصادية هو الكفيل بضمان النهضة الاقتصادية المنشودة". فنقول لهذا الكاتب إن الحرية الاقتصادية هي التي أوصلت أمريكا إلى هذا الوضع فاضطرت إلى مخالفة مبدئها مخالفة تامة بأن حدّت من هذه الحرية وتدخلت في السوق الذي يحرّم المبدأ الرأسمالي على الدولة التدخل فيه، وقد رأت أن اقتصادها سيسقط بسبب الحرية الاقتصادية وستسقط هي معه إذا لم تتدخل في السوق وتحدّ من هذه الحرية وتتحكم في الشركات بإملاء سياسات حكومية معينة عليها. مما يدل على فشل المبدأ الرأسمالي الذي يخالف الحقيقة ومن ثم يقوم القائمون عليه بمخالفته والتحايل عليه.
وقال تشارلز جوايت في كتابه: "تحطم الأحمر والأزرق: نحو استعادة الاقتصاد الأمريكي الحر" "إن الإنفاق الأمريكي غير الضروري هو ما أدى إلى تدمير ثرواتها الاقتصادية وغرق الحكومة في المزيد من الديون، وهو ما أدى في النهاية إلى الانخراط في حروب غير معلنة على حساب الشعب وازدهاره". ويخلص في كتابه إلى أن "الحل يكمن في تخلي الحكومة عن الإنفاق الحكومي المفرط وغير الفعال والسماح للاقتصاد الحر بأداء وظيفته كما كان مقصودا منه في الأصل".
ويتفق الكتاب الغربيون، وعلى رأسهم الأمريكيون، على أن النجاح الأمريكي في الخروج من أزمته المالية بكبح جماح الحكومة الأمريكية في الإنفاق الخارجي ووضع نهاية للتدخلات الأمريكية في الدول الأخرى قبل أن تلقى الولايات المتحدة مصير الإمبراطوريات الرومانية والفرنسية بقيادة نابليون والسوفياتية. ومعنى ذلك أنهم يدعون إلى اتباع سياسة العزلة التي كانت عليها أمريكا قبل الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي ترفض الإدارة الأمريكية اتباعه وتصر على التدخل في الدول الأخرى حتى تستمر في سياستها الاستعمارية وفرض هيمنتها على دول العالم وشعوبها وإظهار عنجهيتها وغطرستها. وحسب فهم أولئك الكتاب فبسبب استمرار الحكومة الأمريكية في الإنفاق الخارجي والتدخل في الدول الأخرى سوف تستمر أمريكا في أزماتها حتى تلقى مصير الإمبراطوريات السابقة.
وقد أعلن عن تراجع خطط الإنفاق الاستثمارية في قطاع الأعمال الأمريكي للشهر السادس على التوالي خلال شهر شباط/فبراير الماضي 2015 نتيجة ارتفاع الدولار الذي أدى إلى ضعف الطلب العالمي على السلع والخدمات الأمريكية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تراجع النمو خلال الربع السنوي الأول هذا العام، حيث أعلنت وزارة التجارة الأمريكية في 25/3/2015 انخفاض طلبات السلع المعمّرة بنحو 1،4% خلال الشهر الماضي بينما كانت تشير التوقعات إلى ارتفاعها بنسبة 0،1%. وقد صرحت رئيسة البنك الاحتياطي الأمريكي جانيت يلين "أنه من المرجح رفع الفائدة تدريجيا خلال العام الحالي إلا أن ذلك سيكون قيد انتظار لرؤية ما إذا كانت مؤشرات التضخم سوف تشهد مزيدا من التراجع أم لا". (الشرق الأوسط 28/3/2015) وقد خفضت الفائدة الربوية إلى حد الصفر تقريبا بعد انفجار الأزمة المالية عام 2008 ولم يستطع الاحتياطي الأمريكي حتى الآن رفعها مما يدل على مدى عمق الأزمة وأن التراجع الاقتصادي الأمريكي ما زال مستمرا. ورفع الفائدة الربوية في الاقتصاد الرأسمالي مهم للغاية من أجل أن تتحرك الشركات والمؤسسات المالية لتحقق مكاسب كبيرة في تعاملاتها التجارية والمالية عندما تكون الفائدة الربوية مرتفعة. وكان البنك المركزي الأمريكي (مجلس الاحتياطي الفدرالي) قد جدد في 17/9/2014 تعهده بإبقاء أسعار الفائدة الربوية قرب الصفر لفترة طويلة كما كانت منذ أن تفجرت الأزمة المالية عام 2008 حيث عمدت أمريكا إلى تخفيض الفائدة الربوية إلى 1% ومن ثم خفضتها إلى 0.25% حتى تحرك سوق العمل، وإن كان ذلك لا يفيد الشركات لأنها لا تحقق أرباحا مع تدني الفائدة الربوية، ولكن كان القصد من خفضها معالجة موضوع سوق العمل، أي تخفيض نسبة البطالة. وقد أفاد البنك المركزي في بيانه بأن "سوق العمل تحسنت بدرجة ما غير أن معدل البطالة لم يشهد تغيرا يذكر". وكان كثير من الخبراء الاقتصاديين والمتعاملين يتوقعون أن يغير البنك توجهاته ليرفع الفائدة الربوية في ضوء هذا البيان الذي يشير إلى تحسن سوق العمل إلا أن ذلك لم يحدث بسبب أن "سوق العمل الأمريكية لا تزال تواجه قدرا كبيرا من الفتور" كما أفاد بيان البنك. فراهن البنك المركزي على تحسن معدل البطالة ولكن لم يشهد تغيرا يذكر، والآن هو يراهن على مؤشرات التضخم ما إذا كانت ستشهد مزيدا من التراجع أم لا. مما يدل على الأزمة ما زالت مستمرة، وهم يريدون أن يطبقوا السياسات السابقة التي نتجت عنها الأزمة حتى يبقوا في دوامة الأزمات لأنهم لا يستطيعون إيجاد حلول أخرى.
وكانت هناك وفرة مالية هائلة لدى أمريكا بسبب غنى البلاد وتقدمها الصناعي والتكنولوجي وكان التنافس الدولي لها ضعيفا في هذا المجال، وكان الأفراد يحوزون على الفتات الذي يعتبر كثيراً مما تبقى على مائدة الأغنياء الذين يحوزون على أكثرية ثروات البلاد، وليس لأن النظام الرأسمالي يشبع حاجات الناس بتوزيع ثروات البلاد عليهم، وهو يرفض ذلك ويؤمن بالحرية الاقتصادية، أي بالاقتصاد الحر الذي ليس عليه قيود. ويظهر أن الوضع قد تغير، فبدأت ثروات البلاد تنفد فصارت أكبر مستدين في العالم، وصارت هناك دول تعمل على منافستها في مجال الصناعة والتكنولوجيا، وأصبحت التكنولوجيا تنتشر، ولم تعد حكرا على أمريكا كما يقر المفكرون والمسؤولون الأمريكيون أنفسهم، وكذلك أصبحت كثير من الدول تحوز على كميات كبيرة من المال وتعمل على تطوير طرق حيازته؛ مما يشير إلى صعود دول بإمكانها أن تنافس أمريكا إذا ملكت من الوعي السياسي ما يكفي، فإنها ستعمل على زحزحتها عن مقعدها الأول في الموقف الدولي، ولكنه لم يظهر حتى الآن في الدول الكبرى الموجودة حاليا. مع أن هذه الدول تبقى مثل أمريكا لا تعالج المشاكل بشكل صحيح وتطبق الحلول الرأسمالية التي تنتج المشكلات، وهي لا تعالج فقر الأفراد، فلا تعمل على توزيع الثروات، بل مثلها مثل أمريكا تعمل على تكديسها في خزائن الأثرياء لتتفاخر بأن عدد أصحاب المليارات لديها قد تضاعف كما هو حاصل في جمهورية الصين الشعبية الاشتراكية!
وقد ذكرت وكالة رويترز بتاريخ 23/10/2014 أن مؤسسة سميشونيان، وهي أكبر مجمع للمتاحف والأبحاث العلمية في العالم، أعلنتعن البدء في حملة علنية لجمع تبرعات قدرها 1،5 مليار دولار. وقالت هذه المؤسسة التي تتخذ من واشنطن مقرا لها في بيان أصدرته إن "الحملة هي الأولى لها على نطاق واسع". وتضم المؤسسة 19 متحفا ومعرضا وتسع منشآت بحثية إضافة إلى حديقة الحيوانات الوطنية. وقال واين كلوف أمين عام المؤسسة: "إن الدعم الخاص الذي تجمعه الحملة سيضيف فصولا جديدة إلى تاريخ أمريكا وسيحدث ثورة في التعليم وتطوير البحث العلمي على نحو يفيد كل الأجيال". وقال الموقع الإلكتروني للمؤسسة: "إنه سيتم استثمار التبرعات في برامج تعليمية ومعارض واجتذاب أفضل العقول والاحتفاظ بها (في أمريكا)". وكانت هذه المؤسسة قد أنشئت عام 1846 للتطوير العلمي وتعتمد في حوالي ثلثي ميزانيتها السنوية على التمويل من قبل الدولة الأمريكية. مما يدل على أن أمريكا لم تعد قادرة على تمويل مؤسساتها وأنها في أزمة كبيرة وتداعيات الأزمة المالية ما زالت تلاحقها ولم تتخلص منها. وقد أفلست أكثر من 40 مدينة كما أفلست مئات الشركات والبنوك منذ تفجر الأزمة في أمريكا عام 2008. فأمريكا في داخلها قد دبّ فيها الوهن، ولكنها عالميا تتشبث بأنها ما زالت قوية وأنها الدولة الأولى في العالم، توهم كثيرا من الناس ولكن في حقيقتها ليست كذلك.
ومن ناحية ثانية نرى أمريكا تحرص على جذب أفضل العقول من كافة أنحاء العالم وتحتفظ بهم لديها، وقد أصبحت الآن بحاجة ماسة أكثر من ذي قبل، لأن الانحدار الفكري قد بدا عليها وبياناتها تشير إلى تدني المستوى العلمي والفكري لدى أبنائها. وتعمل على جذب العقول من الخارج كما تعمل على تمويل مؤسساتها وآلتها الحربية من حساب الآخرين.
كل هذه الاستدلالات التي سقناها من أقوال المسؤولين والمفكرين الأمريكيين تؤكد ما ذكرناه في موضوعنا الذي نشرناه سابقا تحت عنوان "الفراغ السياسي في الموقف الدولي - القسم الثاني: سقوط أمريكا" تحت باب "أهم عوامل سقوط أمريكا عن مركز الدولة الأولى في العالم" وبالذات في النقطة الأولى أو العامل الأول وهو "التراجع الفكري" حيث قلنا: "إن أهم عامل من عوامل سقوط الدول الكبرى وانهيارها وزوالها هو الانحطاط الفكري، ويبدأ الانحطاط بالجمود الفكري الناتج عن العجز الفكري المتمثل في عدم القدرة على إيجاد حلول ناجعة للأزمات والمشاكل من المبدأ الذي تعتنقه الدولة". فأمريكا بدأت تتراجع في الإبداع العسكري والتفوق التقني والعلمي، وهذا ينعكس على تفوقها العسكري بسبب التراجع الفكري الذي لم يستطع أن يجد حلولا للمشاكل الاقتصادية المستعصية والمزمنة فتضطر إلى تخفيض الإنفاق، ومنه الإنفاق على التطوير والإبداع في المجال العسكري الذي تتولاه الدولة فيؤدي إلى ضعف القدرات العسكرية. ومن أهم الأمور التي اعتمدت عليها أمريكا هو التفوق في المجال العسكري والذي يعتمد على التطوير والإبداع لتسبق الآخرين في إنتاج أسلحة ومعدات عسكرية مختلفة متطورة بحيث تخيف الآخرين وتجعل لها مهابة دولية ويزداد تأثيرها العالمي فتنصاع الدول لقراراتها. فإذا توقفت في هذا المجال فإن النتائج ستكون سلبية عليها، وتبدأ بالعد التنازلي عن مركز التفوق ومركز الصدارة العالمية والتأثير الدولي وقد بدأت به، ولكن المنافسة الحقيقية لها غير موجودة فتبقى تتآكل ذاتيا حتى تهترئ وتسقط فيظهر للناس مدى ضعفها.
وبسبب التراجع الفكري الذي بسببه لم تستطع أمريكا أن توجد حلولا للمشاكل الاقتصادية المزمنة اضطرت إلى أن تتنازل عن مبدئها وتدخلت في السوق لإنقاذ الشركات والمؤسسات المالية والاقتصادية بشراء أسهمها المتعثرة أو الهالكة ابتداء من عام 2008 عند انفجار الأزمة المالية الأخيرة، حيث قررت ضخ 3 ترليونات من الدولارات من أجل ذلك، مع العلم أن ذلك يخالف مبدأها الرأسمالي مخالفة أساسية؛ حيث ينص هذا المبدأ على منع الدولة من التدخل في السوق ويوجب تطهير السوق من براثن السلطة، ويقول بأن السوق هو الذي يعالج نفسه بنفسه، وهي التي تنادي بتحرير السوق وبالاقتصاد الحر. فمثلها كمثل الاتحاد السوفياتي الذي عمل على تطبيق الاشتراكية حتى يصل إلى الاشتراكية الشيوعية، ثم تراجع فسمح بإشراك بعض الأفراد في وسائل الإنتاج، واستمر في تراجعه وتنازله إلى أن سمح للمؤسسات المالية والاقتصادية الغربية الرأسمالية بالاستثمار في الاتحاد السوفياتي. وهكذا سقط الاتحاد السوفياتي عندما بدأ يتنازل ويتراجع عن مبدئه، وبدأ بتأويله وتحريفه، وسمح بدخول الأفكار الرأسمالية. وأمريكا خالفت مبدأها لأنها لم تستطع أن تلتزم به لأنه لا يعالج المشاكل فتدخلت في السوق ووضعت عليه قيودا وقوانين، وقامت وتدخلت لإنقاذ الشركات التي يجب أن تسقط حسب المبدأ الرأسمالي وتقوم غيرها محلها بصورة أقوى وأفضل، ومع ذلك لم تستطع أن تعالج هذه الأزمة وما زالت تضخ الأموال الطائلة لإنقاذ شركات أصحاب رؤوس الأموال الذين يحكمون البلاد وتحرم عامة الناس منها.
ومن هنا يتبين لنا أن أمريكا على وشك السقوط وأنها إلى زوال بإذن الله ولو بعد حين، خاصة وأن علامات ذلك قد ظهرت جلية عليها بسبب التراجع الذي لا تستطيع أن تعالجه، وهي تكرر الحلول نفسها فتنتج المشاكل نفسها وتعقدها فتصبح أزمة مستعصية مزمنة، وتخالف مبدأها لأنه في حالة تطبيقه بحذافيره فإنها ستسقط سريعا، فكانت تعمل على أن تطبق الاقتصاد الحر الذي يمنع الدولة من التدخل فيه والذي يدعو لتطهيره من براثنها وبراثن سلطاتها ولكنها فشلت. وقد أقر مسؤولوها ومفكروها بذلك التراجع، ويريدون أن يعالجوه بتطبيق الاقتصاد الحر الذي إذا خطت الدولة نحوه لتطبيقه تصطدم بالواقع الذي لا ينطبق عليه. ففكرة الاقتصاد الحر هي لب النظام الاقتصادي الرأسمالي وهي فكرة فاشلة لا يمكن تطبيقها على الواقع. ويعزون ذلك التراجع إلى أسباب مالية وهي عدم قدرة الدولة على التمويل حتى تتمكن من الاستمرار في التطوير والابتكار الذي بدأ يتراجع في أمريكا بسبب نفاد قدراتها المالية وكثرة نفقاتها الخارجية وخوضها الحروب في الخارج ومن ثم وقوعها تحت طائل مديونية ضخمة لا يمكن تصورها ولا يمكن معالجتها فهي تزداد سنويا باطراد، ويعزون ذلك التراجع إلى أسباب سياسية أيضا من تنافس الجمهوريين والديمقراطيين، مع العلم أن الأزمة بدأت على عهد الجمهوريين برئاسة بوش الابن فلم يتمكنوا من معالجتها، واستمرت على عهد الديمقراطيين برئاسة أوباما الذي سينقضي بعد سنة ويورث تلك الأزمات للجمهوريين كما ورثها عنهم قبل ثمانية أعوام، ويطالبون بترك التدخل في الدول الأخرى وعدم خوض الحروب الخارجية حتى لا تضطر إلى الإنفاق الكبير. مع العلم أن هذه الحروب والنفقات استعمارية لتحقيق أرباح كبيرة بمص دماء الشعوب الأخرى ونهب ثرواتها ولكن مقاومة أبناء الأمة في العراق وأفغانستان جعلوها تخسر فلم تحقق ما كانت تحلم به. ومن ناحية ثانية فإن أزمة الكساد العظيم التي تفجرت على أثر الأزمة المالية عام 1929 كانت أثناء تطبيقها لسياسة العزلة ولم تكن تخوض حروبا في العالم القديم ولا تقوم بالنفقات الخارجية. فإذن المشكلة هي في المبدأ الرأسمالي نفسه الذي يسبب الأزمات ويجمع الثروات في أيدي قلّة قليلة ويحرم أغلبية الناس منها، وهذا ما لا يتطرق له المسؤولون ولا المفكرون في المبدأ الرأسمالي وجلّ همهم هو المحافظة على كيان الدولة وتفوقها بالتطوير والابتكار. والدول الرأسمالية الأخرى ومن يسير ضمن منظومتها الرأسمالية مثل روسيا لن تكون أفضل منها وهي تعاني من أزمات خانقة، وكذلك الصين التي تتناقض مع صفتها كدولة شيوعية اشتراكية هي تسير ضمن هذه المنظومة الرأسمالية ولن تصبح دولة كبرى عالميا وهي تتناقض مع مبدئها وهي لا تحمل رسالة للعالم وإنما تظهر كتاجر كبير يريد أن يجمع حصيلة أرباحه وليست لديه قدرة على التأثير الفكري والسياسي في البلاد الأخرى، بجانب عدم اكتمال الوعي السياسي على كيفية صيرورة الدولة الكبرى عالميا الذي يقتضي العمل على زحزحة الدولة الأولى وذلك بمنافستها ومناكفتها بل ومصارعتها في كل مكان في العالم. فلم يبق إلا احتمال نهضة الأمة الإسلامية وإقامة دولتها دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي ستقوم بحمل كل تلك الأعباء والمسؤولية لإنقاذ البشرية فتحل كافة المشاكل الاقتصادية وغير الاقتصادية وتوزع الثروات على الأفراد حتى لا يبقى فقير على وجه البسيطة التي ستحكمها بحكم ربها الذي لا يريد ظلما للعباد، فأنزل حكمه ليقوم الناس بالعدل فيسعدوا ويأكلوا ويشربوا هنيئا في أمن وأمان بعيدا عن حكم الاستعمار وأصحاب المليارات الذين أصبحوا كالحيتان التي لا تشبع مهما أكلت ولمّت وجمعت من أموال وثروات.
رأيك في الموضوع