كثير منا لا يفهم السبب الحقيقي للصراع المرير والطويل بين الجارين المغرب والجزائر، ولا يفهم معظم الناس لماذا طال هذا الصراع واستعصى على الحل، والحقيقة أن الصراع وإن بدا ظاهرياً أنه بين البلدين إلا أنه في الواقع أكبر منهما ويقف وراءه كالعادة الكافر المستعمِر.
بدأت قصة النزاع المغربي الجزائري، منذ العهد الاستعماري الفرنسي، حيث لم يكن هناك رسم للحدود بشكل دقيق وكامل بين البلدين المتجاورين، ولم تكنفرنسا معنية بذلك إلا بعد اكتشاف حقول من النفط ومناجم حديد في المنطقة الحدودية، إذ أعادت ترسيم الحدود بإدخالها كلاً من "الحاسي البيض" و"كولومب بشار" ضمن المقاطعة الفرنسية للجزائر آنذاك. بعد استقلال المغرب سنة 1956، واستقلال الجزائر سنة 1962، طالب المغرب باسترجاع سيادته على المنطقتين، بالإضافة إلى مناطق أخرى كانت تعود للمغرب قبل الاستعمار مستنداً في ذلك إلى خارطة المغرب الكبير التي نشرها حزب الاستقلال المغربي في 7 تموز/يوليو 1956، لكن الجزائر رفضت الطلب، ودعت إلى عدم المساس بالحدود التي رسمها الاستعمار الفرنسي بالاستناد إلى مؤتمر باندوق المنعقد في 1956.
تطورت المناوشات بين الطرفين شيئاً فشيئا إلى حرب عسكرية قصيرة في تشرين الأول/أكتوبر 1963، سميت فيما بعد بحرب الرمال. كانت هذه الحرب الشرارةَ التي أشعلت فتيل العداء بين الدولتين. عند ظهور الصراع على الصحراء الغربية، تبنت الجزائر حركة البوليساريو المطالبة بانفصال الصحراء عن المغرب، وأيدتها في حرب العصابات التي شنتها الحركة على المغرب في فترة السبعينات والثمانينات، فزاد هذا من توطيد حالة العداء بين الطرفين.
والسؤال: إذا كان تأييد الجزائر للبوليساريو لفصل الصحراء الغربية عن المغرب هو السبب الرئيس للعداء بين الطرفين، فما مصلحة الجزائر من وراء هذا الانفصال؟
الجواب: لا شيء. لا مصلحة البتة للجزائر من تقسيم بلد عربي إسلامي، وحتى ما يقال من سعي الجزائر لإيجاد منفذ لها على المحيط الأطلسي مروراً بأراضي الدولة الجديدة، فإن الجزائر عملياً لا تحتاج إليه لأنها تملك شاطئا يفوق الألف كيلومتر على البحر الأبيض المتوسط، كما أن وجود علاقات طيبة مع المغرب يمكن أن يمنحها ما تريد دون الحاجة إلى تقسيم المغرب، ومثال على ذلك خط أنابيب الغاز الذي يصل الجزائر بإسبانيا عبر المغرب. وعليه فالصراع الجزائري المغربي صراع مصطنع، لا مصلحة لأي من الطرفين من ورائه بل ولا مبرر له، وإنما يقف وراءه الغرب المستعمِر كعادته ليعمق الأحقاد بين المسلمين ومن ثم يحول دون توحدهم.
ولسائل أن يسأل: إن كان طرفا الصراع يتبعان لبريطانيا سياسياً، فلماذا تجعلهما على خلاف؟ أوليس من الأفضل لبريطانيا أن يكونا على وفاق كي يتعاونا على خدمة مصالحها؟
قلنا إن الصراع مصطنع وغايته توطين الأحقاد بين الشعوب، وهو لم يمنع الطرفين من خدمة الغرب، فبغض النظر عن ارتفاع حدة الخلاف أو انخفاضها، فقد استمر التنسيق الأمني بين الطرفين لمحاربة الحركات الجهادية، نشر موقع "معهد العربية للدراسات" في كانون الأول/ديسمبر 2013، نقلاً عن مصدر عليم أن "العلاقات الأمنية التي تربط الجزائر بالمغرب لم تتأثر أبدا بأوضاع العلاقة السياسية بين الدولتين الجارتين، ويخفي توتر العلاقات بين الجزائر والمغرب علاقة أمنية دافئة بين أجهزة الأمن في البلدين، ولا يعني وجود توتر في العلاقة أو استدعاء سفير في الجزائر أو في المغرب أن التنسيق الأمني بين البلدين توقف، حيث يتعامل العسكريون الجزائريون والمغاربة وضباط الأمن والمخابرات من الطرفين في لجان ارتباط أمنية وعسكرية مشتركة بين البلدين، بعضها يلتزم به الطرفان في إطار الاتفاقات الدولية مع حلف الأطلسي وفي إطار مجموعة 5+5، والبعض الآخر في إطار اتفاقات ثلاثية مع طرف ثالث أهمها الولايات المتحدة الأمريكية، ويضمن نظام تبادل معلومات أمنية التواصل بين الجزائر والمغرب حتى في أسوأ الحالات. ويعمل خبراء من أجهزة الأمن الجزائرية والمغربية في إطار لجان تنسيق أمنية متخصصة في عدة ملفات، ولم يتأثر عمل اللجان الأمنية المشتركة بين الجزائر والمملكة المغربية بتوتر العلاقات بين البلدين في الآونة الأخيرة. وتنسق قوات الجيشين الجزائري والمغربي لمواجهة الأحداث الطارئة عن طريق خط اتصال بين البلدين تم الاتفاق على إنشائه في عام 1989، يؤمّن الاتصال الساخن بين قيادات الجيشين الجزائري والمغربي على الحدود للتصدي لأي حادثة غير متوقعة أو عمل فردي معزول قد يساء فهمه".
أما لماذا تدعم الجزائر البوليساريو وتطالب بحق تقرير المصير للشعب الصحراوي في كل المحافل الدولية وتسعى لتوسيع الاعتراف الدولي بالجمهورية الصحراوية الموهومة، فمن المعلوم أن الحركة الانفصالية مدعومة أمريكياً، وأن أمريكا تجعل من الصراع مدخلاً لها للنفاذ إلى شمال إفريقيا وطرد النفوذ الفرنسي والبريطاني منه، وذلك عن طريق مجلس الأمن ومبعوثيه، لذلك فدعم الجزائر للبوليساريو هو في الحقيقة من باب الاحتواء وليس من باب الدعم، والدليل أن البوليساريو بفعل "الدعم" الجزائري بدل أن تنتعش وتتقوى كمثيلاتها من الحركات الانفصالية المسلحة كالحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان تراجعت عن العمل العسكري ووضعت السلاح وقبلت بالمفاوضات وبقيت محصورة في منطقة تندوف الصحراوية المقفرة على مساحة لا تتجاوز 3000 كلم مربع في ظروف مادية مزرية تعيش على المساعدات. إذن فالدعم الجزائري هو أقرب إلى قُبلة الموت منه إلى شريان الحياة. واحتضان جنرالات الجزائر للحركة إنما هو لاحتوائها ولتبقى كل تحركاتها تحت اليد والبصر ولا تنفرد أمريكا بها.
أما التصعيد المغربي الأخير في الهجوم على الجزائر ودور الأمم المتحدة، فإنه بعد أن هاجم دبلوماسي جزائري المغرب بخصوص قضية الصحراء خلال احتفالات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بدورتها السبعين، في 21/10/2015، ردت البعثة المغربية بالمطالبة بمنح منطقة القبائل الجزائرية، والتي يسكنها أمازيغ، حق تقرير المصير والحكم الذاتي والاعتراف بهويتها الثقافية واللغوية، مما شجع رئيس حكومة القبائل فرحات مهني ونشطاء داخل حركة تحرير القبائل بالتفكير بالتقدم بطلب رسمي لفتح سفارة بالمغرب.
أما بخصوص الأمم المتحدة فإن العلاقة بها متوترة منذ سنين؛ ففي سنة 2012 سحب المغرب ثقته من مبعوث الأمين العام كريستوفر روس، وفي سنة 2014 سعت أمريكا لاستصدار قرار بتوسيع صلاحية القوات الدولية بالصحراء المينورسو لمراقبة حقوق الإنسان بالصحراء مما اضطر المغرب للتهديد بالانسحاب من المسلسل الأممي لحل النزاع. وفي 05/11/2015، وقبل يوم واحد من زيارة الملك محمد السادس للصحراء بمناسبة الذكرى 40 للمسيرة الخضراء والتي أعطت الانطلاقة الفعلية لمشروع الجهوية الموسعة بالصحراء، أعرب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، في بيان له عن أسفه "لأن مقترحات عام 2007 المقدمة من المغرب وجبهة البوليساريو لم تفتح الطريق أمام المفاوضات الحقيقية التي دعا إليها مرارا مع مجلس الأمن"، وقال أيضا في بيانه "مبعوثي الشخصي السيد كريستوفر روس كثف جهوده لتسهيل دخول الأطراف في مفاوضات بدون شروط مسبقة وبحسن نية.. لم يفعلوا ذلك حتى الآن". وأضاف "أدعو كل الأطراف المعنية داخل المنطقة وداخل المجتمع الدولي الأوسع نطاقا إلى استغلال الجهود المكثفة (لروس) لتسهيل البدء في مفاوضات حقيقية في الأشهر القادمة"، فجاء الرد على بان كي مون والرفض لما ذهب إليه في تقييمه للمفاوضات بين المغرب والبوليساريو من الملك محمد السادس في خطاب المسيرة الخضراء في 06/11/2015 بقوله: (وإيمانا بعدالة قضيته، فقد استجاب المغرب، سنة 2007، لنداء المجموعة الدولية، بتقديم مقترحات، للخروج من النفق المسدود، الذي وصلت إليه القضية. وهكذا، قدمنا مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية، التي شهد المجتمع الدولي، بجديتها ومصداقيتها. وكما قلت في خطاب المسيرة الخضراء، للسنة الماضية، فإن هذه المبادرة هي أقصى ما يمكن للمغرب أن يقدمه). ثم تلا ذلك الحد من تدخلات مبعوث الأمم المتحدة كريستوفر روس ومنعه من زيارة الصحراء، وهو الذي كان يصول ويجول في الصحراء ويلتقي بالناشطين السياسيين والأحزاب والجمعيات غير الحكومية، حيث صرح وزير الخارجية المغربي صلاح الدين مزوار يوم 08/11/2015 لوكالة "إيفي" الإسبانية، من مدينة العيون، على هامش زيارة الملك محمد السادس للأقاليم الجنوبية، "من المؤكد أنه ليس له (كريستوفر روس) ما يفعله هنا (الأقاليم الجنوبية). ومن غير الوارد أن يجتمع مع من يريد في العيون" وأضاف "حين يأتي روس إلى المغرب، فهو يأتي لمقابلة المسئولين المغاربة، وينبغي أن يلتقي بهم في الرباط. انتهى الأمر"، وبخصوص المفاوضات مع البوليساريو قال مزوار "لم تؤد تسع جولات سابقة من المفاوضات في مانهاست (ضواحي واشنطن) إلى أي شيء. لقد تحولت إلى مفاوضات بدون جدوى، المغرب تقدم باقتراح (الحكم الذاتي) ونحن على استعداد لمناقشة محتوياته، لكن الآخرين هم الذين لم يتطوروا"، ويعتبر هذا التصريح رفضاً لدعوة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، المغرب وجبهة البوليساريو لجولة مفاوضات جديدة.
إن بيان بان كي مون جاء في تناقض تام مع قرارات الأمم المتحدة التي تشير إلى "مصداقية وجدية المقترح المغربي" القاضي بمنح حكم ذاتي موسع للأقاليم الصحراوية، الذي قدمته الرباط في 11 نيسان/أبريل 2007 إلى الأمم المتحدة. فتصور أمريكا للحل في الصحراء يتجاوز سقف الحكم الذاتي وهي تدعم حق تقرير المصير لسكان الصحراء، ولهذا أوعزت لبان كي مون بإصدار هذا البيان ليعرقل سير المغرب في مشروع الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية.
وعليه، فمن غير المستبعد أنه من باب استغلال الانشغال الكبير لأمريكا في المستنقع السوري نتيجة فشلها في قمع ثورته المباركة رغم كل ما تجيشه لدعم نظام بشار، فيبدو أن المغرب يريد استغلال هذه الظروف لزيادة التضييق على البوليساريو وقطع يد أمريكا في المنطقة، وجعل وجوده في الصحراء أمراً واقعاً (المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها) وتوطيده عن طريق (الحكم الذاتي الموسع).
بقيت مسألة، وهي كيف يمكن للجزائر أن تساير المغرب في مساعيه دون أن تظهر وكأنها تخلت عن موقفها الذي ثبتت عليه منذ أربعين سنة؟ من غير المستبعد أن يتم إخراج الأمر في إطار صفقة تعقدها الجزائر مع المغرب تتخلى بموجبها الجزائر تدريجياً عن البوليساريو مقابل تخلي المغرب عن دعم الأمازيغ في منطقة القبائل ومنطقة مزاب. فالمغرب بتبنيه لمطلب حق تقرير المصير لمنطقة القبائل يعطي ذريعة لحكام الجزائر بالتراجع عن دعم البوليساريو والضغط عليها للقبول بمقترح الحكم الذاتي. فقد صرح الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني عمار سعداني لقناة النهار في 10/11/2015 بشأن قضية الصحراء أن "لا بد من مراجعة الحسابات بخصوص العلاقة مع المغرب". وإنه وإن شدد وزير الدولة ومدير ديوان رئيس الجمهورية الجزائرية السيد أحمد أويحيى، على إثر تصريحات سعداني، أن مساندة الجزائر للبوليساريو نابع من تقديسها لحق الشعوب في تقرير مصيرها إلا أنه أقر بأن "مساندة المغرب لما تسمي نفسها حركة الماك من أجل الحكم الذاتي لمنطقة القبائل، موضحا في هذا الشأن أن المملكة المغربية لا تساند الحركة حبا فيها ولكن تريد فقط أن تساوم مقابل قضية الصحراء الغربية".
هل يمكن لهذا السيناريو أن يتحقق؟ الأمر رهين بقوة أمريكا في المنطقة وتطورات الصراع في منطقة الشرق الأوسط، فمن الواضح أن أمريكا لا تريد تصعيد الأمور عسكريا في منطقة الصحراء، ولا تريد أن تفتح جبهة جديدة لا يعرف أحد كيف يمكن أن تتطور.
بقلم: محمد عبد الله
رأيك في الموضوع