إن كل إنسان بطبيعته يحمل أسئلة عن حقيقة وجوده؛ من أوجده؟ وما الغاية من إيجاده؟ وما كان قبل الحياة؟ وما سيكون بعدها؟ وما دوره في الحياة؟ ويبحث عن إجاباتها.
هذه الأسئلة الوجودية هي العقدة الكبرى، والإجابة عنها هي عقيدته ووجهة نظره عن الحياة، وباختلاف الإجابات تختلف عقائد البشر، ومتى تبنى إجابة منها رسم لنفسه مساراً خاصاً يسير به في الحياة، والمسار خاصٌ بكل عقيدة لأنّ لكل منها معنى خاصاً للسعادة، ومقياساً للأعمال متميزاً عن غيره، ونظاماً معيناً يحقق لهم غاية وجودهم التي أقرتها عقيدتهم.
وحيث إن الثورة هي تغيير انقلابي جذري شامل لكل مناحي الحياة، فهذا يعني أنها تستلزم تغيير الأنظمة القائمة التي تنظم شؤون الحياة بشكل جذري لتتوافق مع عقيدة الثائرين، ولن يكون هذا التغيير حقيقياً إلا إذا كان يتوافق مع عقيدتهم التي تعبر عن حقيقة الوجود التي تبنوها، وإلا كانوا أمام حالة انفصام وضياع.
إذ كيف يسعون لتغيير نظام حياتهم - وهم يتبنون عقيدة معينة - ثم لا يأخذون النظام المنبثق من عقيدتهم هذه؟!
وبالتدقيق في الأنظمة القائمة اليوم في العالم، ومنه البلاد الإسلامية نجدها أنظمة علمانية رأسمالية تقوم على فصل الدين عن الدولة وعن الحياة، مقياسها المنفعة، والسعادة فيها هي المتع والملذات، وغايتها لا تتعدى حدود الحياة الدنيا بإشباع الرغبات، وهذا يناقض ما جاء به الإسلام الذي يبين حقيقة وجودنا كمخلوقات لله الخالق، ويحدد الغاية من وجودنا في هذا الكون، ألا وهي العبودية لله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، ويعطينا مقياساً للأعمال وهو الحكم الشرعي.
فالعقيدة الإسلامية توجب علينا باعتبارنا مسلمين نظاماً معيناً منبثقاً منها، يتضمن قواعد عيشنا التي توصلنا إلى تحقيق الغاية التي من أجلها وجدنا. وإن أي نظام آخر ناتج عن عقيدة أخرى، ويكون نتاج مقاييس أخرى لن يحقق غاية الوجود التي نعتقدها، ولن يحقق التغيير المنشود الذي يحقق فوزنا وفلاحنا.
لهذا كان لزاماً على كل ثائر في بلاد المسلمين أن يهدم المقاييس العلمانية مع الأنظمة الرأسمالية التي أنتجتها ويستبدل مقياس الإسلام ونظامه بها، وإلا فإنه سيعيد بناء النظم نفسها التي ثار عليها، ولن يغنيه تغيير الحكام القائمين عليها. وهذا التغيير في الأنظمة ومقاييسها هو التغيير الحقيقي، وما عداه لا يعدو كونه تغييراً شكلياً لا يسمن ولا يغني من جوع.
ولهذا كان نصر الثورة وفق مفاهيم عقيدتنا هو إعادة بناء الدولة، وتغيير أنظمة الحياة فيها، فلا يكون دستورها وأنظمتها قائمة إلا على أساس العقيدة الإسلامية، لأننا بهذه الأنظمة فقط يمكن أن نسير نحو تحقيق غاية وجودنا، ألا وهي العبودية لله تعالى وحده لا شريك له، في حين إن النظم الديمقراطية تسير بنا خلافاً لغاية وجودنا. فبدلاً من تطبيق أحكام الله لننال رضاه فإنها تخضعنا لشريعة البشر، وتجعلنا في خدمة الدول الكافرة، وهي أيضا تحادّ الله ورسوله، فتعرقل أو تمنع عنا كل طاعة وتحضّنا أو تسهل لنا كل معصية، حتى غدا واقعنا مؤلماً جداً مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ». صحيح الترمذي
إن فهم حقيقة الثورة وحقيقة النصر يوجب الاستمرار حتى الوصول إلى الهدف المفروض بإسقاط النظام بدستوره وكافة أركانه ورموزه، وإقامة حكم الإسلام، كما يوجب رفض الحلول السياسية التي يقدمها لنا المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا وأشياعها، فهذه الحلول تحافظ على الأنظمة القائمة وتحول دون تغييرها، ودون الانعتاق من ربقة التبعية للغرب الكافر المستعمر. وهذا ما حصل في تونس ومصر، وهذا ما يسعون لتطبيقه في ثورة الشام، وبفضل الله تعالى ثم بفضل الواعين المخلصين لن يتمكنوا من تمرير مكائدهم السياسية أو من إعادة بناء أنظمتهم العميلة.
وعلينا أن ندرك أن أنصاف الثورات مقتلة للثائرين، وأن أيَّ خطأ في تحديد معنى النصر سيجعلنا نصفق لنصر أعدائنا علينا، ونعيد أهلنا للعيش في ظل الأنظمة التي ثرنا عليها، وسنسخط قبل ذلك ربنا، وهذا بإذن الله لن يكون.
والنتيجة، أن المسلمين الذين ثاروا ينشدون التغيير وفق مفاهيم العقيدة الإسلامية حتماً يواجهون الأنظمة العميلة ومِن خلفِها الدول التي أوجدتها ورعتها، فإن كانت هذه الأنظمة ومعها دول الغرب تعتمد في مواجهتنا على ما تملكه من قوة مادية من مال وسلاح، فإننا نخوض هذه المواجهة بما نستطيع وبما نملكه من قوى مادية، ولا يكون اعتمادنا وتوكلنا إلا على قوة الله تعالى، وثقتنا بالنصر مبنية على ثقتنا بوعد الله سبحانه القائل في كتابه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. والقائل سبحانه: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.
فاللهَ نسأل أن يكرمنا بالعز والنصر والتمكين على أرض الشام بعد تضحيات أكثر من مليون شهيد، والتي لا يكافئها إلا حكم الإسلام عبر دولة الإسلام، دولة الخلافة الراشدة الثانية التي بشرنا بعودتها رسول الله ﷺ حيث قال: «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، والتي نذر حزب التحرير منذ نشأته نفسَه لإقامتها مهما كانت الصعاب والعقبات والآلام والتضحيات، دولة آن أوانها وأطل زمانها بإذن الله وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: الأستاذ مرعي أبو الحسن
رأيك في الموضوع