لمّا كان الوعي السياسي هو النظرة إلى العالم من زاوية خاصة، كان وجوده عند الأمة يعني وجود أعظم سلاح تُحافظ به على نفسها من السقوط، لأنّ هذا الوعي يشتمل على أمرين في غاية الأهمية، وهما عالمية النظرة والزاوية الخاصة، أمّا بالنسبة إلى النظرة إلى العالم فتشمل كل الأعداء المفترضين، سواء أكانوا موجودين في الإقليم كدولة يهود في منطقة الشرق الأوسط، أو كانوا دوليين كأمريكا وسائر الدول العظمى الاستعمارية والطامعة، أو كانوا أنظمة محلية عميلة للقوى الكبرى، فشمول هذه النظرة لكل القوى المتحركة في العالم يُكسب الأمّة معرفة ضرورية تُعينها ليس فقط في الدفاع عن نفسها وحسب، وإنّما تُعينها أيضاً في التمدد والتوسع والانتشار في جميع أرجاء العالم، وهي ما تجعلها أمّة فاعلةً ومؤثرةً في السياسة الدولية والإقليمية والمحلية، إضافة إلى جعلها أمّة مَهيبة الجانب ولها وزن وحضور دولي محترم.
لذلك كانت النظرة المحلية أو الإقليمية من دون الناحية الدولية نظرة قاصرة لا توجِد الوعي السياسي الشامل، وكانت المجتمعات تتعرض بسببها إلى الوقوع في شباك التبعية كما هو حال بلاد المسلمين في الوقت الراهن، وقد توصلها هذه النظرة القاصرة إلى التلاشي بعد تمزيقها وإزالتها من الوجود كما حصل مع الدولة العثمانية، لذلك كانت النظرة المحلية والإقليمية بالفعل تتسم بالتفاهة والسطحية.
هذا بالنسبة للشق الأول من الوعي السياسي وهو النظرة إلى العالم، أمّا بالنسبة للشق الثاني وهو أن تكون النظرة من زاوية خاصة فأهميتها تكمن في كونها تجعل من العقيدة الإسلامية قاعدة سياسية صلبة لا يغفل عنها المسلم في اكتسابه للمعلومات السياسية في أية لحظة، وبفضلها يتم إيجاد ثقافة سياسية متميزة تحمي صاحبها من السقوط في مصائد الحكام والعملاء وأسيادهم من الدول الكافرة المستعمرة.
والزاوية الخاصة وإن كانت ثابتة في عموميتها باعتبارها حملاً للدعوة الإسلامية ونشراً لها في العالم، إلاّ أنّها خصوصية في نظرة الدولة الإسلامية إلى الأحداث والوقائع والأعمال السياسية على الأرض، فالرسول كانت زاوية العمل التي اعتمدها بُعيد قيام دولته في المدينة هي حصر جميع الأعمال السياسية والعسكرية العدائية بقريش، ولكن بعد اطّلاعه على معلومات تُشير إلى احتمال انضمام يهود خيبر إلى تحالف مع قريش، غيّر استراتيجيته الأولى واعتمد استراتيجية جديدة تقوم على أساس مهادنة قريش، لسحق خيبر وكسر الحلف الذي قد يتكون بينهما، وذلك لضمان تفوق القوة الإسلامية ولعدم تعرضها لخطر وجودي.
وهذا التغيير في الرؤية السياسية لزاوية العمل في الزاوية الخاصة يحدث بسبب المعلومات السياسية المتدفقة باستمرار للقيادة السياسية عن المحيط الذي يحيط بدولة الإسلام، وهذا التدفق المعلوماتي المستمر للأخبار يقتضي وجود اتصال دائمي للمسلمين بالعالم من أجل تكوين الوعي على أحواله، وإدراك مشاكله، والتعرف على دوافع دوله وشعوبه، وتتبع الأعمال السياسية التي تجري فيه، وملاحظة الخطط والمناورات السياسية التي يرسمها أعداء المسلمين، وكشفها، ومن ثم إحباطها، وأخذ الاحتياطات السياسية اللازمة تجاهها.
ومن هنا كان فهم السياسة الخارجية للجماعة والتكتلات والأفراد أمر جوهري لحفظ الدولة والأمة، وأمر أساسي للتحكم في حمل الدعوة الإسلامية، لذلك كان لا بد من الإحاطة بالمعلومات عن كل الدول المحيطة بدار الإسلام، والدول الكبرى والفاعلة إحاطة تامة لأنّها بحق تُعتبر الركيزة الأولى في أولويات الفهم السياسي.
والوعي السياسي ليس فقط معلومات سياسية تتعلق بالأحداث والمجريات السياسية في العالم، وإن كان لا بد من توفر تلك المعلومات، بل الوعي السياسي هو في الأساس أفكار سياسية تتعلق برعاية الشؤون، وتشمل العقائد والقواعد والأحكام، وبمعنى آخر فالوعي السياسي يشمل المفاهيم الإسلامية الثابتة واستخدامها في رعاية شؤون الناس من خلال تنزيلها على الوقائع الجارية.
إنّ وجود الوعي السياسي يتطلب بشكل خاص فهم الموقف الدولي والذي غالباً ما يكون في حالة تغير، لأنّ الحالة التي عليها الدولة الأولى إن لم تتغير، فإنّ الحالة التي عليها الدول المزاحمة عادة ما يطرأ عليها التغيير. وفهم الموقف الدولي وتغيراته يُساعدنا في تفسير وتحليل ما يجري في بلدان المسلمين التابعة والذليلة، وقد يُمكّننا من البحث عن نقاط الضعف في تلك الأنظمة التابعة من أجل النجاح في إسقاطها وتحويلها إلى دولة إسلامية.
والوعي السياسي لدى الأفراد والأحزاب يُساعد في عدم سقوطهم ضحايا للحكام العملاء وللأنظمة العميلة، وما نراه اليوم من انجرار حركات إسلامية في شباك السعودية في عمليتها العسكرية في اليمن سببه الرئيس هو عدم وجود الوعي السياسي لديها، وكذلك ما نراه من انجرار الأفراد خاصة العلماء والوجهاء الذين سقطوا في الاختبار بسبب هذه الحرب الدولية والطائفية في اليمن، ومنهم سلمان عودة ونبيل العوضي وعبد المجيد الزنداني وطارق سويدان، وكذلك العلماء المشهورون في السعودية كالعريفي والقرني وكل هؤلاء أعلنوا تأييدهم للسعودية في عدوانها على اليمن، وشكروها ومجّدوا قيادتها، ونظموا فيها الأشعار، وما كانت هذه السقطة العميقة لتقع لو كانوا يملكون الوعي السياسي الذي يُقرّر بأنّ حكام السعودية ما هم سوى مجرد أدوات للغرب وعملاء لدوله.
فلا بد إذن من تثقيف الأمّة بالثقافة السياسية الإسلامية، وطرح الأفكار السياسية عليها، وربط كل الأحداث السياسية بالزاوية الخاصة، وتتبعها، وربطها بقواعد ربط ثابتة، من دون أن تتسلط الأهواء أو الآراء المسبقة عليها، وذلك من أجل غرس المفاهيم السياسية الصحيحة في الأمة، بحيث تصبح جزءاً من حياتها اليومية، وبالتالي فلا تنخدع بالإعلام الكاذب الذي يُزين أعمال الطغاة ويُمجّدها.
لذلك كان لا بد بشكل خاص من التركيز على السياسة الدولية باعتبارها الخبز اليومي للسياسيين، وذلك من أجل إدراك تصرفات الأعداء، وما ترمي إليه تصريحاتهم وخطبهم، وعلاقاتهم الدولية ومن ثمّ معرفة نواياهم الخبيثة وكشفها للأمة.
وبالإجمال فعلى حملة الدعوة بشكل خاص أن يقودوا الأمّة في مسيرة الوعي السياسي، وأن يتتبعوا الأخبار بلا كلل ولا ملل، ويجمعوا المعلومات، ويمحّصوها، ويربطوا المهم منها بقواعد الربط الصحيحة والمتعلقة بالسياسة الدولية، ثمّ بعد ذلك عليهم أن لا يجرّدوها من ظروفها وملابساتها، ولا يقيسوا عليها أشباهها ونظائرها، فإن اعتادوا على هذا النهج أصبحوا مفكرين سياسيين قادرين على قيادة الناس، لا يملكون الوعي السياسي فحسب، بل يملكون أيضاً القدرة على التفكير السياسي، والذي هو أعلى وأصعب أنواع التفكير.
رأيك في الموضوع