قامت ثورات ما أطلق عليه بالربيع العربي وكانت مفاجئة للدول الغربية صاحبة النفوذ في العالم وفي البلاد الإسلامية وعلى رأسها أمريكا، فتخبطت في مواجهة هذه الثورات التي أطاح بعضها بعملاء سابقين وجاء بعملاء جدد، ولكن أبرز ملامح المواجهة لهذه الثورات هي الطريقة نفسها التي أنشأ بها الغرب الأنظمة في البلاد الإسلامية بعد هدمه الخلافة العثمانية واحتلاله البلاد الإسلامية، الذي قامت ثورات للتحرر منه، ما دفع الغرب إلى دس بعض عملائه في صفوف الثوار ودعمهم بالمكر والكيد والمال وانسحبت الدول الاستعمارية أمام هذه الثورات التي امتطاها عملاء الاستعمار ما أظهرهم قادة منتصرين فأصبحوا رؤساء على أنهم قادة محرِّرون!
إن قصر النظر ومرحلية التفكير وافتقاد المشروع السياسي الكامل والواضح لدى الشعوب الثائرة هو ثغرة ينفذ منها أعداء الأمة ليحتووا الثورات ويجندوا العملاء داخلها ويطرحوا مشاريعهم ويشكلوا المجموعات المقاتلة والهيئات السياسية ليؤطّروا الثورات ويسيطروا عليها ويوجهوها حيث تخدم مصالحهم وتبقي نفوذهم أو تحقق لهم نفوذا جديدا. وهنا أود أن آخذ ثورة الشام نموذجاً لأنها كانت هي الأبرز من بين الثورات في كشف وفضح المتآمرين والمتاجرين ومشاريعهم الآنية والمصلحية والمرحلية التي ترمي إلى القضاء على الثورة التي لا زالت مستمرة وستبقى إن شاء الله حتى تحقق هدفها وغايتها.
لقد كانت ثورة الشام تعبيرا صادقا عما يجيش بصدر الأمة وانفجارا كبيرا للاحتقان الحاصل نتيجة الظلم والقهر والاستبداد وإهانة الكرامات والاستخفاف بالناس والفساد الذي استشرى في كافة الصعد ومحاربة دين الأمة وعقيدتها، لقد حققت الثورة في وقت قياسي إزاحة سلطان النظام عن سبعين بالمائة من سوريا وحصرت النظام في أمهات المدن وكاد يسقط لولا تدخل أمريكا صاحبة النفوذ على النظام، والتي أوعزت لعملائها ممن زعموا أنهم أصدقاء الشعب السوري أن يحتووا الثورة ويؤطروها ويمسكوا بزمامها عبر أدوات قذرة أبرزها المال السياسي والدعم العسكري الموجه عبر غرفتي الموك والموم.
إن مرحلية التفكير ومرحلية الهدف وهو إسقاط النظام فحسب كان من أبرز سمات ضعف الثورة، حيث كان التفكير بإسقاط النظام دون التفكير بالنظام البديل والمشروع الجامع هو ما جعل الدول المتدخلة تشكل داخل الثورة مجموعات وفصائل يتم استهلاكها بمراحل سياسية وعسكرية، واتخاذ قادة يكونون رجال مرحلة يتم حرقهم والتخلص منهم، وهكذا حتى الوصول إلى التصفيات النهائية بقوى عسكرية مدجنة وممسوكة بشكل جيد وهيئات سياسية يتم تغييرها لحرق المراحل وكسب الوقت حتى الوصول إلى الحل السياسي الذي تنشده أمريكا وفق ما يحفظ مصالحها، وما المجلس الوطني والائتلاف الوطني ثم هيئة التفاوض ثم المنصات السياسية كمنصة الرياض وأنقرة وموسكو والقاهرة واللجنة الدستورية إلا نموذج لهذه الهيئات المصطنعة التي صُنعت لخداع الثورة والناس.
وفي المقابل فقد تم عرض مشروع الخلافة على منهاج النبوة كنظام بديل يعمل على توحيد الفصائل على أساسه وتوحيد الرؤية السياسية والحاضنة الشعبية، وكانت هناك استجابة لهذا المشروع إلا أن المكر والمال السياسي القذر كان لهما دور في التشويش على هذا المشروع بمشاريع آنية ومرحلية ومصالح شخصية ضيقة وأهداف قصيرة النظر كالوطنية والفيدرالية والتقسيم على أساس عرقي أو طائفي وما شاكل ذلك من هذا التفكير السطحي المحدد الذي كان ترويجه تخديرا ريثما تتم عملية صياغة قوة عسكرية منضبطة ووسط سياسي عميل موالٍ لأمريكا ومشروعها السياسي، كما كان إعلان تنظيم الدولة خلافته المزعومة المشوهة أحد أشكال التشويش والتشويه لمشروع الخلافة الحقيقي والحضاري الذي تخشاه أمريكا والغرب أجمع.
إن هذا الواقع الذي مرت به الثورة قسم الناس فيها إلى قسمين في العمل والتفكير: قسم منهم يريد الحل الآني السريع بأي ثمن وأي شكل، ينتظر ما تنتج عنه الهدن والمفاوضات والمؤتمرات الدولية التي أدخلت الثورة بعملية حرق المراحل التي حرق معها المحرر حرقا وهجر أهله وشردوا، ولا زال أولئك كالظمآن ينتظر من السراب ماء! ويعتبرون الثورة في نهاياتها فكانوا جزءاً من مشروع الآخرين لأنهم لا يعرفون ماذا يريدون بديلا عن النظام، وقسم آخر وهم أصحاب مشروع الأمة الذين أطلوا على الناس من خلال الثورة بمشروع الخلافة على منهاج النبوة كمشروع استراتيجي يصارعون كل الطروحات المرحلية والمؤامرات والفخاخ السياسية التي ترمي إلى إنهاء الثورة وتصفيتها بالحل السياسي الأمريكي، ويعتبرون ما مرت به الثورة هو مرحلة وجولة صراع أكسبت الأمة قوة ووعيا لتثبت وتستمر وتستفيد مما مضى وليس نهاية للثورة بل منعطف للتمحيص والاختبار، ويحملون فكريا وسياسيا هذا المشروع وسط الأمة والثورة ليكون الحياة للثورة التي هي فكرة لا تموت حتى تصل إلى هدفها ومشروعها الحضاري.
نعم إن الثورات في البلاد الإسلامية وثورة الشام على وجه الخصوص هي فكرة بدأت تكبر وتتدحرج ككرة الثلج تجمع أبناء الأمة حولها وعلى مشروعها بنظرة ثاقبة ورؤية استراتيجية إلى الصراع في العالم من خلال مشروع سياسي تحمله ثلة من أبناء الأمة المخلصين والواعين الذين وطدوا أنفسهم لهذا الأمر العظيم، فهم ليسوا طارئين على العمل السياسي وليسوا رجال مرحلة ولا جماعة مرحلية... بل هم حزب سياسي عريق في العمل السياسي والصراع الفكري والكفاح السياسي للاستعمار وعملائه، وقد واكب ثورات الأمة وحراكها منذ احتلال فلسطين إلى يومنا هذا يحمل مشروع الأمة مبدأ فكريا سياسيا وطريقا واضحا حتى يصل إلى مبتغاه بإذن الله، تحقيقا لوعد الله في الاستخلاف والتمكين في الأرض.
إن ثورة الشام هي اليوم أمام مفترق طرق وامتحان عسير؛ هناك من يريد إنهاءها وتصفيتها بإطفاء جذوتها وإخماد حراكها كي لا يتعاظم من جديد فتكون الميدان الذي تنطلق الأمة منه للتخلص من هيمنة أعدائها، ومن المؤسف أن بعضا من الناس يتساوقون مع هذا الاتجاه طلبا للسلامة ورضا بالحل الدولي الآني، فهم كمن يرضى من الغنيمة بالإياب! ولكن بالمقابل هناك من يعمل على إبقاء فكرتها وإيقاد جذوتها وتصحيح مسارها وفق نظرة ورؤية استراتيجية تقوم على مشروع سياسي؛ خلافة على منهاج النبوة. ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ محمد سعيد العبود
رأيك في الموضوع