استطلاع الرأي ببساطة هو وسيلة فنيَّة تَهْدِف إلى معرفة وقياس السلوك والاتجاهات والآراء، من خلال طرْح الأسئلة على عَيِّنة من السكان، وتحفيز المستطْلَع آراؤهم في إخراج ما لديهم من آراء وقضايا مَسكوت عنها. ولا يصح البدء بقول إن كل الاستطلاعات "مضللة" و"تحقق مخططات"، خاصة إذا التزمت المعايير العلمية والحيادية للوصول إلى حقيقة الرأي العام، خصوصاً في الدول التي تهتم في صنع قراراتها على ضوء التوجه الفكري والمشاعري للناس، ولكنها في الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية طاغوتية لا تكترث للرأي العام للأمة مثل البلاد الإسلامية، فلا تشهد عادة قياسات صحيحة لاتجاهات الرأي العام، لعدم اكتراث النخب الحاكمة برأي الجماهير. وتكمن المشكلة هنا في أن الفئات المستضعفة عادة ما تؤثر السلامة، ولا تفصح عن رأيها بصراحة، إذا ما كانت أسئلة استطلاعات الرأي العام متعلقة بالشأن السياسي. وهنا تصبح نتائج الاستطلاعات ذات الطبيعة السياسية مضللة، والآراء منافية للحقيقة.
وتجدر الإشارة هنا إلى بعض أنواع الاستطلاعات المضللة والكاذبة في قياس الرأي العام ومنها ما يسمى بالاستطلاعات المرتزقة أو المستأجرة، وهي استطلاعات رأي بتكليف من جهات معينة مدفوعة الأجر أو صاحبة مصلحة سياسية، وتنفذ لتعزيز وجهة نظر معينة لصالح المكلف، وهي الاستطلاعات المصممة للحصول على نتائج معينة ومرغوبة مسبقاً، فالهدف الحقيقي لهذه الاستطلاعات ليس معرفة رأي الناس حول قضية ما وإنما نشر نتائج تؤثر على صانع القرار، وهذه الاستطلاعات تستخدم كاستخدام السكران لعمود الإنارة، أي للإسناد وليس للاستنارة، أي للتضليل، ويمكن كشف هذه الاستطلاعات من خلال الأسئلة التي صيغت بطريقة إيحائية أو متحيزة، وخيارات الاستجابة مصممة للمساعدة على ضمان استجابة معينة تسعى إليها استطلاعات الرأي المزعومة.
وفي ظل واقع العديد من منفذي الاستطلاعات، الذين لا يلتزمون بالمعايير الأخلاقية والعلمية بنشر الاستطلاعات، وحال الكثير من الإعلاميين، الذين لا يتقنون فن قراءة النتائج حسب علم الاستطلاعات، فضلا عن الكتابة والتعليق عليها؛ نحتاج إلى فهم هذه القواعد؛ حتى لا نزهد في استطلاعات الرأي، ونسهم في التعامل السلبي مع نتائجها، وفي الوقت نفسه حتى نضبط تجاوزات بعض الجهات الاستطلاعية التي بعدت عن الحيادية؛ ليس فقط بسبب ارتباطاتها الخارجية بل والداخلية.
بناء على هذه المقدمة الضرورية للرأي العام واستطلاعات الرأي، نأتي على نتائج استطلاع للرأي العام نفذه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية في الشهر الماضي حول حكومة الرئيس هاني الملقي وبعض القضايا الراهنة ومنها الدولة المدنية، وهو البند الأهم المراد الترويج له من الاستطلاع، مع أن الإعلام أبرز النتائج تحت عنوان "نصف الأردنيين يعتقدون أن الأمور تسير بالاتجاه الخاطئ"، لإضفاء بعض المصداقية على الاستطلاع، وهو وصف واقع متردٍ تلمسه الغالبية العظمى من الناس ولا يحتاج لعناء أو دراسة استطلاعية.
وحسب تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية، نقتبس التالي تحت عنوان: "الدولة المدنية والديمقراطية، ففي هذا القسم، تم التطرق إلى موضوع الدولة المدنية وعناصر الدولة الديمقراطية، من خلال السؤال عن الدين والدولة، والدولة المدنية والأنظمة السياسية".
عند السؤال عن حماية حرية التعبير، أفاد 72% من المستجيبين بأنه يجب حماية حرية التعبير حتى لو كانت متناقضة مع قناعاتهم الشخصية، فيما أفاد 45% من المستجيبين بأنهم مع حماية حرية التعبير حتى لو كانت متناقضة مع دينهم، وأفاد 65% من المستجيبين بأنه يجب حماية حرية التعبير حتى لو كانت متناقضة مع الحكومة الأردنية.
ثم تم تعريف الدولة المدنية للمستجيبين على أنها "الدولة التي تستند على الدستور القائم على المساواة بين المواطنين بغض النظر عن خلفياتهم وتضمن سيادة القانون، بحيث يشكل الدين المرجعية الأخلاقية والقيمية للدولة والمجتمع ولا يتم استغلاله لأغراض سياسية"، وتم سؤالهم في ما إذا كان التعريف السابق يمثل وجهة نظرهم لمفهوم الدولة المدنية، وقد أفاد 66% من مستجيبي العينة الوطنية و90% من مستجيبي عينة قادة الرأي بأن التعريف السابق يمثل وجهة نظرهم لمفهوم الدولة المدنية" انتهى الاقتباس من التقرير.(مركز الدراسات الإستراتيجية)
فقد عرف الاستطلاع الدولة المدنية كما أراد لها النظام فهو مقتبس تماماً من الورقة النقاشية الملكية السادسة، فهو سؤال ليس عن الدولة المدنية بل سؤال عن الدولة التي عرفها النظام في الأردن كما ذكرها الاستطلاع، وروج لها الإعلام بشكل موسع، فكيف يملك المستجيب الحرية في الإجابة وخصوصاً أن الذي يجري الاستطلاع مؤسسة شكلت بإرادة ملكية، كما أن الاستطلاع احتكر تعريفاً واحداً رغم وجود تعريفات أخرى أكثر انتشاراً للدولة المدنية تصفها بأنها رديفة الدولة العلمانية ونفس مضمونها، بالإضافة إلى رأي الشرع الإسلامي السائد والمنتشر بين الناس بأن الدولة المدنية لا تحكم بالشرع لأن المشرع والحكم فيها ليس لله وإنما للبشر، فهل كانت النتائج لتكون كما وردت لو أن هذه الخيارات طرحت للمستجيبين وتم الاختيار بينها؟
كما أن الاستطلاع يتضمن عبارات إيحائية تحفز الاستجابة بالإيجاب لا علاقة لها بصميم السؤال وهو التشريع في الدولة المدنية، وذلك من مثل عبارات: المساواة بين المواطنين، وسيادة القانون، والدين المرجعية الأخلاقية والقيمية للدولة والمجتمع، وليس لأغراض سياسية، فكيف للعامة وحتى النخب رفض هذه الإيحاءات الخبيثة، فمن يرفض سيادة القانون؟
أما السؤال عن حرية التعبير فجاء مقيداً، وهو خبث في السؤال يراد منه تمرير الأفكار والشعارات التي تهاجم الإسلام ومعتقداته وأحكامه وإلا ما المقصود بعبارة "حتى لو كانت متناقضة مع دينهم" فهذا السؤال بالون اختبار وجرأة على دين الله لا يجوز أن يسأل ابتداء في مجتمع يغضب لأية إساءة لدينه ورسوله، وهو بالون اختبار يقصد منه معرفة الحد الذي يمكن فيه التجرؤ على الإسلام دون إثارة غضب الناس.
أما ما غاب عن الاستطلاع فهو ليس فكرة (حرية التعبير) بل ممارسة (حرية التعبير) كما جاءت بالدستور دون قمع أو تقييد وإرهاب من قبل الحكومة وأجهزتها الأمنية.
إن الرأي العام السائد اليوم والناتج عن وعي عام في الأمة نحو مطالبتها بدولة إسلامية تطبق الشريعة، هو الذي دفع النظام إلى طرح فكرة الدولة المدنية بغلاف لا يمت إلى واقعها بشيء وإنما لصرف الأنظار عن أنها هي عين الدولة العلمانية المرفوضة، وهذا الرأي هو الذي طرح من أجله استطلاع الرأي المضلل حول الدولة المدنية، في محاولة بائسة لتزييف الرأي العام لها.
لا يمكن الوثوق باستطلاع الرأي هذا، ونراه من الاستطلاعات المضللة المشار إليها أعلاه، ولا يعبر عن نبض الشارع تعبيرا حقيقيا، بل نراه موجهاً توجيها خبيثا يهدف إلى ترسيخ مفهوم الدولة المدنية الشاذ والمرفوض عامة من قبل الأمة الإسلامية بمجملها، وندعو إلى طرح استطلاعات رأي تبين حقيقة الأفكار والمشاعر التي تسود بين الناس.
بقلم: د. أحمد حسونة
نائب رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية الأردن
رأيك في الموضوع