اندلعت معركة الفلوجة التي بشّرت بها الحكومة العراقية لشهور، تلك المدينة التي لم تسلم من قصف القوات العراقية والمليشيات الموالية لها وحصار ظالم استمر لأكثر من سنة منذ أن سقطت بيد تنظيم الدولة الإسلامية في كانون الثاني/يناير من العام 2014، وما سبقها من عمليات تدميرية قادتها القوات الأمريكية المحتلة انتقاماً من هذه المدينة لصمود أهلها ومقاومتها للاحتلال ومشاريعه، فمنذ غزو العراق عام 2003 تعرّضت المدينة لعدّة حملات عسكرية قادتها الولايات المتحدة عام 2004، أدى إلى تدميرها تدميراً شبه كامل، فضلاً عما قامت به القوات الحكومية والمليشيات بقصف ممنهج ضد المدنيين في المدينة في شكل عمليات عسكرية تحمل شعارات طائفية، مما أدى إلى مجازر عديدة ضد المدنيين وبخاصّة النساء والأطفال. ومنذ بداية عام 2016 تمت محاصرة الفلوجة، ومنعت جميع المواد الغذائية والأدوية، بما في ذلك المساعدات الإنسانية، من دخول المدينة من أجل تركيع المدينة بحجة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.
العمليات العسكرية ما زالت تتواصل على هذه المدينة وتشارك في عملية تحريرها أو بالأحرى تدميرها، قوات متعددة أبرزها قوات الشرطة الاتحادية التابعة لوزارة الداخلية العراقية بعشرين ألف مقاتل، إضافة لقوات مكافحة الإرهاب، المسماة بالفرقة الذهبية، إضافة لقوات الحشد العشائري من أبناء عشائر الأنبار، وقوات الحشد الشعبي المختلفة تحت قيادة مباشرة من "قاسم سليماني" والبالغ عددها 17 مليشيا التي أطلقت على اسم عملية تحرير المدينة "العملية نمر"، كما استخدمت صاروخًا محلي الصنع أسمته "النمر" أيضًا، تخليدا لاسم المرجع الشيعي نمر باقر النمر الذي أعدمته السعودية في كانون الثاني/يناير الماضي. إضافة إلى الغطاء الجوي الذي توفّره قوات التحالف بقيادة أمريكا. كل هذه القوات يقابلها (900) من عناصر تنظيم الدولة الموجودين داخل المدينة حسب تصريحات وزارة الدفاع. وجود عناصر تنظيم الدولة وبهذه الأعداد لا يعد مبررا لتدمير المدينة بكاملها وقتل أهلها، وحشد عشرات الآلاف من الجيش وقوات التحالف والمليشيات لاقتحامها، وقصفها بوحشية لا مثيل لها بالبراميل والصواريخ الإيرانية والمدفعية الثقيلة والهاونات وغيرها، وتدمير بناها التحتية وجسورها، وعلى مرأى ومسمع ودعم الإدارة الأمريكية ومباركتها.
وبالرغم من أن الجيش العراقي دعا الناس في الفلوجة لمغادرة المدينة من خلال ما وصفه بـ "الطرق الآمنة التي سيتم الإعلان عنها لاحقا"، وطالب جميع الأسر غير القادرة على الخروج من المدينة لرفع الراية البيضاء على أسطح المنازل، حتى يتسنى للجيش أن يكون قادرا على تمييزها أثناء توجيه الضربات، إلا أن هذه الخطة خيالية إلى حدّ ما حيث إنه لم يتم توفير "الطرق الآمنة" بعد، في حين إن الهجوم الواسع قد بدأ بالفعل. وعلاوة على ذلك، فقد أثبتت الأحداث الماضية في معارك تكريت وديالى والرمادي تجاهلاً تاماً من الوحدات العسكرية التابعة للحكومة والمليشيات للمدنيين، الذين غالباً ما كانوا يتعرّضون للقتل أو الاعتقال في كل مرّة يتمكنون فيها من الهروب من المدن المحاصرة. وبعبارة أخرى، فإن التصريحات هذه لا تعدو كونها محاولة من السلطات العراقية لتضليل الرأي العام ودفعه إلى الاعتقاد أنها تسعى لحماية المدنيين. إذ لو كانت هنالك جهود حقيقية لحماية المدنيين، لكان قد تم تنفيذ استراتيجية تفصيلية ودقيقة من قبل السلطات إما بإخلاء المدينة قبل بدء الهجوم، أو على الأقل توفير الحماية اللازمة والمأوى لأولئك الذين يستطيعون الخروج من المدينة.
هناك عدة أمور تؤكد على نية الأمريكان والحكومة ومن خلفها إيران إبادة المدينة بمن فيها بحجة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية الذي سينسحب منها كالعادة تاركا لأهلها مواجهة الموت بعد أن أذاقهم سوء العذاب منذ سيطرته على المدينة كما فعل بأخواتها في ديالى وتكريت والرمادي؛ من هذه الأمور: عدم وجود خطة لدى حكومة بغداد من الأساس من أجل إنقاذ المدنيين المحاصرين الواقعين بين مطرقة المعارك العشوائية المستمرة وبين نقص مستلزمات المعيشة والدواء بسبب الحصار الخانق المضروب عليهم منذ سنة، بالإضافة إلى تراجع الحكومة عن وعودها في عدم مشاركة الحشد الشعبي في المعركة بسبب الحساسية المذهبية. لكن الحشد الشعبي أصر على المشاركة ورفع شعار "العملية نمر" وهو ما يؤكد أن الولايات المتحدة التي تمسك بزمام الأمور في العراق تريد خداع الناس بتصوير المعركة أنها ذات بعد طائفي أو أن دافعها طائفي مع أن المشاركين في تلك المعركة أدوات في تنفيذ الأجندة الأمريكية. ولذلك ذكر مركز جنيف الدولي للعدالة أن ما يجعل الوضع أكثر إثارة للجدل هو الغطاء الجوي الذي توفّره الولايات المتحدة الأمريكية للمعركة، من أجل أن تواصل المليشيات المعروفة بارتكاب أعنف الجرائم ضد المدنيين العزّل. وذكر أنه يتمنّى القضاء على الجماعات الإرهابية أينما كانت في مدن العراق. ومع ذلك، فإن هذا لا يمكن أن يتحقق من خلال النهج الوحشي للسلطات العراقية والمليشيات المدعومة من القوات الجوية الأمريكية وقوات الحرس الإيرانية. كما أنها أثبتت أن السياسة المُتبعَة لم تكن تجلب سوى الضرر والقتل للمدنيين وأدت بالمقابل إلى تكاثر الجماعات الإرهابية وتعاظم وحشيتهم. كما أنها تسبّبت في تشريد الملايين من أهل العراق، بما في ذلك التدمير الكامل للمدن بأكملها. ولذلك يحثّ المركز على وجوب توقف مثل هذه الهجمات العنيفة على السكّان، على الفور، وضرورة اتباع نهج مختلف من أجل "تحرير" المدن مثل الفلوجة، لأن سفك دماء المدنيين باسم محاربة الإرهاب ليس أقل خطورة من الإرهاب نفسه. إلا أن إدارة أوباما تتجاهل هذه النداءات وتستمر في تدمير المدينة وتركيع أهلها وكل معارض لمشاريعها والثأر منهم بدعم المليشيات، وتريد إشعال حرب أهلية طائفية سنية - شيعية وقودها أهل البلد، وتواجد سليماني ومليشياته، كافية لإشعال هذه الحرب التي تعمل على إشعالها منذ سنين مع إيران دون جدوى، وصولا للفوضى التي تبتغيها في البلد من أجل تنفيذ مشاريعها في تقسيم البلد إلى أقاليم قائمة على أسس طائفية وإثنية وعرقية، لهذا سمحت للمليشيات الإيرانية بقيادة سليماني بالمشاركة في معركة الفلوجة، إذن معركة الفلوجة، ليست للقضاء على تنظيم الدولة وطرده من الفلوجة وإنما لإنهاء المقاومة، وإلا لماذا كل هذا التوحش في استخدام القوة المفرطة ضدها والحشد والتجييش الطائفي والعسكري والإعلامي؟!
ولذلك نخاطب المسلمين في العراق من جميع المذاهب والقوميات، نخاطبهم بالإسلام الذي يؤمنون به والذي نهى عن أن يقتل المسلم أخاه المسلم، والذي أمرهم أن يكونوا صفا واحدا في مواجهة المحتل الأمريكي.. فكيف تصم الحكومة العراقية ومن خلفها إيران ومعها الحشد الشعبي آذانهم عن حرمة قتل المسلمين فيعيثون في الأرض الفساد حصارا وتجويعا وقتلا؟؟ وكيف لتنظيم الدولة وهو يرى أن كل مدينة يدخلها مآلها التدمير وتشريد أهلها ومن ثم انسحابه منها فلا يستطيع الدفاع عن أهلها وهم فيها ولا وهم مشردون يهيمون على وجوههم خارجها، كيف له أن لا يعتبر من كل ذلك؟؟
بقلم: علي البدري
رأيك في الموضوع