لقد أوجد الإسلام نظاما اقتصاديا مثاليا يوازن فيه بين حاجة الفرد وحاجة الدولة وحاجة الجماعة. بحيث يضمن إشباع حاجات كل فرد بعينه ويمكن الدولة من القيام بواجباتها ويحقق للجماعة الأمن والاستقرار والتقدم في كافة المجالات. وتعتبر الملكية العامة بأحكامها وتفاصيلها من أهم ركائز الاقتصاد الإسلامي، حيث تعتبر وارداتها في الدولة من أكثر الواردات وأهمها لاشتمالها على أكبر مصادر التمويل كالنفط والغاز ومناجم التعدين بشتى أنواعها والمعادن الاستراتيجية كاليورانيوم والبلوتونيوم والذهب والفضة ومساقط المياه والممرات المائية والجوية والغابات ومصانع التعدين والآلات الثقيلة ومصانع السلاح والطائرات والسفن الفضائية والصواريخ. وقد ثبت أن هذه الممتلكات هي أعظم الثروات المالية التي يمكن للدولة التي تمتلكها. وتستعمل واردات الملكية العامة للإنفاق على ما هو واجب على الجماعة وحق لها.
ومن أهم الحقوق التي يجب أن تضمن للأمة بشكل كامل التعليم والرعاية الصحية والأمن الغذائي وسلامة البيئة ونقاؤها ووسائل الاتصال المختلفة وكل ما هو من مرافق الجماعة كالطرق والمطارات والموانئ وغيرها. فكل هذه الأمور تعتبر حقا للجماعة بوصفها جماعة، أي للأمة بشكل عام وليس للفرد بعينه. فالرسول r يقول «من بات آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فقد زويت له الدنيا». فجعل رسول الله r الأمن والصحة والغذاء حقا للناس ولا بد من توفيرها. وأموال الملكية العامة هي أموال الجماعة، فالأولى أن ينفق على الجماعة من أموالها قبل أن ينفق عليها من أموال الأفراد. وكذلك فقد حمل رسول الله r مسؤولية إطعام الجائع للجماعة في حال بقي في الأمة من لا يجد من ينفق عليه ويسد جوعه ممن تجب عليهم نفقته وإعالته، فقال «ما من أهل عرصة يبيتون وفيهم امرؤ جائع إلا برئت منهم ذمة الله». فالجماعة بوصفها جماعة مسؤولة عن إطعام الجائع. وقد غلظ القرآن القول على أهل الشرك حيث قال تعالى: ﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ وفي هذا إشارة إلى أن الجماعة يجب عليها أن تحض على إطعام الجائع. وقد جعل الله للجماعة مالاً ملكها إياه ما يمكنها من الإنفاق. ومن هنا كانت أموال الملكية العامة الضمان الحقيقي لمنع الفقر والجوع في الدولة الإسلامية.
والأمن حق للجماعة فلا بد من توفير الأمن سواء داخليا بحماية ممتلكات الناس وأموالهم وأنفسهم أو خارجيا بحمايتهم من الأعداء، وتحقيق الأمن يحتاج إلى المال ومال الملكية العامة أولى أن ينفق على أمن الأمة سواء أكان الإنفاق على إيجاد قبة حديدية تمنع سقوط الصواريخ على بلاد المسلمين أم بإيجاد منظومة أمنية متكاملة من شبكات الحاسوب العملاقة وغيرها. فيجب توفير الأمن للجماعة والإنفاق عليه من مال الجماعة.
والرعاية الصحية حق للجماعة وقد بين رسول الله r أن صحة البدن مما يجب للإنسان في المجتمع بقوله «معافى في بدنه» ما يعني أنه يجب توفير الرعاية الصحية بشكل كامل من خلال المستوصفات الطبية والإنفاق على البحث العلمي وتوفير الأجهزة الطبية بمختلف أنواعها. فإنه وإن كان يجوز للأفراد توفير خدمة طبية للأفراد إلا أن توفير الرعاية الصحية بشكل كامل لا يتم إلا إذا أنفق عليها من أموال الملكية العامة التي تتمكن الدولة بها أن تغطي حاجة الجماعة.
كما أن التعليم يعتبر حقا من حقوق الناس في المجتمع، وعلى الدولة أن توفر مرافق التعليم المختلفة وأن تنفق على معاهد البحث والتطوير ومراكز إعداد الباحثين وإعداد المناهج الدراسية وبناء الجامعات. فالرسول r أنفق على تعليم الصحابة من أموال الفيء والسبي بعد معركة بدر.
والجهاد واجب على الأمة. ولا يمكن أن يقام بالجهاد على وجهه الصحيح دون الإنفاق عليه من مال الملكيات العامة. فالجهاد يحتاج إلى التصنيع الحربي والدراسات والأبحاث المتعلقة بالأسلحة الاستراتيجية وأسلحة الردع بمختلف أنواعها والصناعات الفضائية. وهذه الصناعات وما يتعلق بها من أبحاث واختراعات لا تتأتى دون إنفاق الأموال عليها. والله تعالى يقول ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ والخطاب للجماعة، أي على الأمة أن تنفق من مالها وتعد العدة الكافية لتحقيق الغاية من الجهاد.
إضافة إلى هذه النفقات فإن أموال الملكية العامة تنفق على تطوير هذه الملكيات واستغلالها وإنتاج المواد والمنتجات التي تعتبر من الملكيات العامة. فإنتاج النفط والغاز وتكريره من خلال المصافي يحتاج إلى مشاريع ضخمة يتم تمويلها من أموال الملكية العامة. وصناعة الطائرات الحربية والغواصات وحاملات الطائرات تمول كذلك من أموال الملكية العامة حيث إن هذه الصناعات تعتبر من الملكية العامة. وكذلك مولدات الطاقة التي تستخدم لإنارة الشوارع والمرافق العامة وتزويد المصانع العامة بالطاقة كلها تعتبر من الملكية العامة. فيتم الإنفاق على المفاعلات النووية ومحركات المساقط المائية وأجهزة تحويل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وما يلزمها من أبحاث واختراعات وتطوير، كل ذلك ينفق عليه من أموال الملكية العامة.
وعلى ذلك فإنه يمكن القول أنه ما كان واجبا على الجماعة أو حقا لها فإنه ينفق عليه من أموال الملكية العامة كالأمن بأشكاله والرعاية الصحية والتعليم والغذاء. وكل مرفق من مرافق الملكية العامة فإنه ينفق عليه من أموال الملكية العامة كالموانئ والمطارات والسكك الحديدية والاتصالات اللاسلكية والطرق. وكل سلعة من سلع الملكية العامة فإنه ينفق على إنتاجها وعلى الآلات اللازمة لتصنيعها من أموال الملكيات العامة كصناعة الطائرات والمحركات والقطارات والمضخات والمولدات. فكما أن المصانع تأخذ حكم ما تنتج من حيث الملكية فكذلك التمويل فإنه من حيث الإنفاق يتبع حكم الملكية. فما كان من الملكية العامة سواء في أصله أو عند إنتاجه فإن تمويله والإنفاق عليه يكون من أموال الملكية العامة.
وهنا لا بد من تبيان أن الملكية العامة لا تتجزأ، بمعنى أن الأموال الناتجة من النفط والغاز يمكن استعمالها في تطوير صناعة الطائرات، والأموال الناتجة عن بيع الطائرات يمكن استعمالها في إنتاج المضخات وهكذا. والذي يتولى الإشراف على الملكيات العامة وإدارتها وإنتاجها وتوزيعها على شتى المرافق والنفقات هي الدولة الإسلامية - الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة - التي تتولى رعاية شؤون الرعية بما في ذلك ممتلكاتها. وكل تصرف في ممتلكات الأمة دون ولاية منها من خلال مبايعة إمام يحكمها بشرع الله فإنه تصرف باطل فاقد للشرعية.
رأيك في الموضوع