أعلنت بريطانيا يوم الاثنين 02/09/2024 حظر تصدير بعضٍ من أسلحتها إلى كيان يهود بزعم خشيتها من انتهاك القانون الإنساني الدولي، وقال وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي: "إن لندن ستعلق على الفور 30 رخصة لتصدير الأسلحة من بين 350 رخصة تصدير لـ(إسرائيل) بسبب مخاطر من احتمال استخدام مثل هذا العتاد في ارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي"، وأضاف: "إنّ الحظر الجزئي يشمل عناصر يمكن استخدامها في النزاع الحالي في غزة، وهي مكونات لطائرات مقاتلة ومروحيات ومسيّرات"، ولكن هذا الحظر الجزئي الذي أعلنته بريطانيا لا يشمل أجزاء مقاتلات إف 35 التي ستعفى من قرار التعليق.
وتُمثّل الصادرات العسكرية البريطانية إلى كيان يهود أقل من واحد بالمائة من إجمالي الأسلحة التي يتلقاها الكيان من الدول الخارجية، وهي نسبة ضئيلة جداً لا تؤثّر على حجم وارداتها الإجمالية من الأسلحة، وبالتالي فإن هذا الحظر البريطاني يُعتبر خطوة رمزية لا أهمية فعلية لها، لأنّ كيان يهود يتلقى مُعظم أسلحته وذخائره من أمريكا بنسبة 69% ومن ألمانيا بنسبة 30%.
وحتى نسبة الواحد بالمائة هذه التي تُصدّرها بريطانيا ودول أخرى لكيان يهود لم يتم حظر إلا أقل من نسبة العشر منها، باعتبار أنّ الحظر شمل 30 رخصة فقط من أصل 350 رخصة، ومن هنا كان القرار رمزياً وشكلياً.
وتُعتبر بريطانيا هي الدولة السادسة من الدول الغربية التي حظرت بيع أسلحة لكيان يهود بعد كل من إيطاليا وإسبانيا وكندا وهولندا وبلجيكا.
إنّ قرار بريطانيا الرمزي هذا جاء لمراعاة مشاعر البريطانيين والمسلمين الغاضبين من المجازر المُروّعة التي يقترفها جيش كيان يهود ضد أهل غزة، وما يقوم به من فظائع وانتهاكات لحقوق الإنسان، فالقرار إذاً هو مُجرد حركة دبلوماسية مُراوغة للتعبير عن نوع من الحيادية البريطانية الكاذبة في الصراع الدائر في غزة، ولتنأى بريطانيا بنفسها عن الموقف الأمريكي المُجاهر بالعداء الصارخ ضد أهل غزة.
وحقيقة الموقف البريطاني من الصراع بين المسلمين وكيان يهود لا يختلف عن الموقف الأمريكي فهما في العداء للمسلمين سواء. ومعلوم أنّ بريطانيا هي التي زرعت كيان يهود في فلسطين بعد وعد بلفور الذي كان وزيراً لخارجيتها سنة 1917م والذي كانت نتيجته الفعلية هي قيام كيان يهود، وذلك قبل أن يكون لأمريكا أي دور.
صحيح أنّ بريطانيا كانت تتبنّى فكرة إيجاد الدولة العلمانية الواحدة في فلسطين والتي تشمل المسلمين والنصارى ويهود، ولم تكن تتبنّى فكرة الدولتين التي تبنّتها وفرضتها أمريكا فيما بعد، إلا أنّ فكرة بريطانيا عن الدولة الواحدة إذ ذاك كانت بهدف حماية يهود وتركيزهم في فلسطين، لأنّها كانت تخشى عليهم من الزوال، فرأت في فكرة الدولة الواحدة في ذلك الوقت أفضل ضمانة لغرسهم وتثبيتهم في فلسطين.
لكنّ تراجع مكانة بريطانيا عالمياً بعد الحرب العالمية الثانية، وهيمنة أمريكا على الشرق الأوسط، وتبنيها لفكرة الدولتين منذ قرار التقسيم أدّى فيما بعد إلى تخلي بريطانيا عن فكرة الدولة الواحدة، وإلى قبولها في نهاية الثمانينات من القرن الماضي بشكلٍ رسمي بفكرة الدولتين وذلك بعدما فصل الملك حسين التابع لبريطانيا الضفة الغربية قانونيا وإداريا عن الأردن، وهو ما جعل بريطانيا منذ ذلك الوقت تتبنّى الفكرة الأمريكية عن الدولتين بوصفها الرؤية الأمريكية لحل الصراع العربي اليهودي في فلسطين.
وإنّه وبالرغم من انضمام بريطانيا لأمريكا في الطرح نفسه إلا أنّها بقيت تتميّز عن أمريكا بوجود عملاء لها داخل منظمة التحرير وداخل السلطة الفلسطينية، وفي دول الجوار، وفي دول الخليج، وهؤلاء العملاء أبقوا لها نفوذاً خاصاً إلى جانب نفوذ أمريكا المهيمن في المنطقة، ومكّنها هؤلاء العملاء من مُشاركة أمريكا سياسياً في رسم الخطط السياسية وترتيب الأوضاع الجيوسياسية في الشرق الأوسط إجمالاً. وهذا ما جعل كيان يهود يحرص دوماً على التنسيق مع بريطانيا في كل خطواتها، وذلك لعلمه بقوة نفوذها في الأوساط السياسية الفاعلة في المنطقة، وللاستفادة من خبراتها في التهرب أحياناً من الضغط الأمريكي عليه.
لكن بريطانيا بشكلٍ عام تتبنّى الدفاع عن أمن كيان يهود مثل أمريكا، وقد تكرّرت التصريحات من الدبلوماسيين البريطانيين المماثلة للتصريحات الأمريكية التي تؤكّد منح ضمانات لبقاء كيان يهود في فلسطين وحمايته، وشاركت مع أمريكا أيضاً في إرسال القطع العسكرية البحرية والجوية للتصدي للصواريخ الإيرانية أثناء حرب غزة.
وأهم ما تسعى إليه بريطانيا حالياً في علاقتها بكيان يهود هو أنْ تبقى حاضرة سياسياً في أي خطة أمريكية تتعلّق بالمنطقة، وأنْ لا يتم تجاهلها.
ومن أحدث الأمثلة على الحضور البريطاني إلى جانب الحضور الأمريكي في تناول قضية الصراع في غزة هو تنسيق موقفي المخابرات الأمريكية والمخابرات البريطانية في البحث عن حل يتعلّق بوقف إطلاق النار وترتيب إخراج صفقة بين كيان يهود وحماس.
ولعل نشاط عملاء بريطانيا في المنطقة، وتفاعلهم مع كيان يهود كحكام الإمارات وقطر والأردن وعُمان والمغرب، يمنح بريطانيا مكانة ثابتة تُعزّز من مُشاركتها لأمريكا في خططها واستراتيجياتها للمنطقة.
ما كان لبريطانيا ولا لأمريكا ولا لغيرهما من الدول الكبرى أنْ يكون لها أي نفوذ في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً وفي بلاد المسلمين عموماً لولا وجود هؤلاء العملاء. وإذا ما أرادت الأمة الإسلامية التخلص من هذا النفوذ الأجنبي الجاثم على صدرها، فيجب عليها أولاً أن تتخلص من هؤلاء العملاء، وبذلك يسهل عليها كنس كل النفوذ الأجنبي من جميع بلاد المسلمين.
رأيك في الموضوع