منذ أكثر من شهر، شن كيان يهود على غزة معركة أخرج فيها مخزونا كبيرا من الوحشية ومن الدمار، دون أي اعتبار لما ضج به العالم كله من مشاهد قتل الأطفال والرجال، والنساء والأشلاء، خلال تلك المجازر، استبدلت وسائل الإعلام الرسمية الغربية الانحياز التام بـ"المهنية" والكذب الوقح بـ"بالمصداقية"، وفجأة تحول الغرب "الحساس" لانتهاك حقوق القطط إلى البلادة والرضا بقتل الأطفال، ورمى بقيمه الكاذبة كلها في "الإنسانية والحقوق والحريات" وراء ظهره، وفوق ذلك حرك قواته وأساطيله واصطف تماما خلف كيان يهود كداعم وراع، ليشكل الغطاء لإجرام الكيان، ما أطلق يده بالوحشية المذكورة.
كيان يهود كان قد أنشأه الغرب المستعمر كجسم يخدم مشاريعه في منطقتنا الإسلامية، ويحقق أهدافه، فكان جزءاً أساسيا في خططه بفصل التواصل بين الأمة في أهم منطقة فيها وأكثرها استراتيجية، وكان كذلك موقعا متقدما كقاعدة عسكرية في المنطقة، وموضعا لإشغال الأمة وشعوبها وبلدانها وتحويل اتجاهها عن حربها مع الاستعمار، حتى صار كثقب أسود يراد به حرف أي توجه وتفكير، وبلع أي جهد لقلع الاستعمار من بلداننا الإسلامية، وسكين في خاصرتها تستمر في استنزافها.
مؤخرا صار يراد لهذا الكيان، إضافة إلى وظيفته السابقة، أن يكون مركز الثقل وحجر الزاوية في بناء المنطقة، من حيث كونه المركز الاقتصادي، والمعبر الأهم لخطوط الطرق التجارية العالمية المزمع إنشاؤها، والمسيطر كذلك على إمدادات الطاقة والمياه لدول الجوار، إضافة إلى كونه القوة العسكرية الأولى والرادعة في الإقليم، ومن هنا كان ضمان الاستقرار لهذا الكيان كما هو الحفاظ على وجوده ضرورة لازمة، وكان تثبيته من خلال عمليات الدمج والتطبيع من لوازم هذا التصور.
كان من اللوازم أيضا حماية ذلك الكيان من نفسه، نعم قد تكون قضية الحفاظ على وجود دولة يهود خطاً أحمر لدى القوى الغربية الكبرى وعلى رأسها أمريكا، ولكن ذلك لم يمنع الكيان من أن يخرج بمصالحه عن حدود المصالح الأمريكية ورؤيتها ويشاكسها أحيانا، بل ويشكل خطرا عليها وعلى نفسه، كما كان الحال مؤخرا بتوجهات الحكومة اليمينية الأشد تطرفا في حكومات كيان يهود، والتي بما يعرف عن طبيعة اليهود سفاهة وطمعاً، تريد ابتلاع كل شيء بكل غطرسة ورعونة، ولذلك كان ما رأيناه من ذلك الاستنفار الكبير للقوى الغربية، والدعم الهائل لكيان يهود، والاصطفاف خلفه في تلك المعركة، بحلف مجرم ملعون، لتطويق ما يجري وتبعاته، وحرصا على كيان يهود من أن يحترق، أو يحرق نفسه، وقد بان مدى وهنه وضعفه، حتى بات استمرار وجوده موضع تساؤل.
ولقد كان من اللافت في تاريخ التحالف والعلاقة بين الغرب وأمريكا وبين كيان يهود، أنه بالرغم من أن الغرب هو علماني رأسمالي، لا مكان للدين فيه في الحياة ولا في السياسة، إلا أنه لم يجر استدعاء للدين بأن يكون حاضرا في رؤية سياسية، إضافة إلى الغاية المصلحية، كما كان حاضرا في مسألة وجود كيان يهود وقضية فلسطين، حيث حكمت هذه النظرة أو أثرت في تيار واسع ومؤثر في الغرب، وفي أمريكا خاصة، على النظر من خلال "الرؤية التوراتية" التي يؤمن بها ذلك التيار من مثل الإنجيليين والصهيونية المسيحية، فكان قيام ما يسمى بـ"إسرائيل" تحقيقا لحلم توراتي لدى اليهود كما هو تحقق لنبوءة "الكتاب المقدس" ومقدمة عودة المسيح الذي يؤمنون به، وكان الحفاظ على بقاء واستمرار ذلك الكيان ومحاربة أعدائه هو الجامع والمشترك.
هذا الحلف الذي قام بين الكيان "اليهودي" وبين الغرب "النصراني"، قد ضم إليه صنفا ثالثا، وهو فئة الحكام والأنظمة التي أنشئت في بلاد المسلمين مع إنشاء كيان يهود، للأغراض ذاتها التي نشأ لها ذلك الكيان، وهو المصالح الاستعمارية، وعلى رأسها الحيلولة دون أن تتمكن الأمة من النهوض، والوحدة، وإقامة الإسلام بإقامة دولته، وها نحن نرى في الأحداث التي تجري في غزة، معالم هذا الحلف بوضوح، حيث لم يكن دور الحكام العملاء المتخاذلين بالسكوت أقل إجراما من دور كيان يهود وداعميه الغربيين بالفعل.
على أن أحلاف اليهود والنصارى، ومن شايعهم من المنافقين من حكام المسلمين لن تؤخر وعد الله سبحانه في كيان يهود إذا جاء أجله، ولعل غطرسته وشدة إجرامه تكون فيها مهلكته، وكما قال الله تعالى فيهم: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾، وإن وجود هذا الكيان في فلسطين، وإن أرادوا به ما أرادوا من ضرب للأمة ووحدتها، ومنع نهوضها، فإن مرادهم سيرديهم بإذن الله، وها هي الأرض المباركة ببركتها صارت هي البؤرة التي تعيد في الأمة إحساسها وحيويتها، وتتجلى حولها وحدتها، والشعلة التي ترتفع بها حرارتها، ودماء أهلها الزكية باتت تضخ العزة في عروق الأمة، أما حلف الظلمة فقد خبرنا الله عز وجل بحالهم ومآلهم حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾.
بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع