ألقى القائد العام للقوات المسلحة السودانية الفريق البرهان خطاباً بقاعدة حطاب العسكرية، تناولته معظم وسائط الإعلام المحلية والعالمية، تناول فيه ثلاث مسائل، أبرزها تحذيره لحزب الرئيس السابق البشير؛ حزب المؤتمر الوطني الذي يحاول الاحتماء بالجيش، والترويج لإشاعات بأنهم سيعودون للحكم من خلال المؤسسة العسكرية، ثم ذكر قائلا "لا يستحق الشعب السوداني أن يبقى ثلاث سنوات من غير حكومة في ظل تردّ للخدمات" وأخيرا ذكر بأن القوات المسلحة تتعرض لهجوم شديد وحذر من المساس بالجيش والسعي لتفكيكه.
ما هي دوافع هذا الخطاب في هذا التوقيت؟ وهل له علاقة بالأوضاع السياسية الداخلية والخارجية؟ وما علاقة ذلك بالصراع الدولي بين أمريكا وبريطانيا على السلطة في السودان؟ وما تأثير ذلك على التسوية السياسية الجارية الآن؟
يأتي هذا الخطاب بعد مرور عام على الانقلاب الذي قام البرهان به في 25/10/2021م وقد جرت مياه كثيرة تحت جسر السياسة السودانية الداخلية والخارجية، فلا البرهان نجح في انقلابه ولا القوى السياسية التي تنازعه الحكم استطاعت إزاحته، ما أوصل البلاد إلى حالة ما يسمى بالانسداد السياسي، واستصحابا لهذه العوامل حاول البرهان في خطابه أن يبعث برسائل سياسية لجهات عديدة بأنه ما زال على الخط الذي رسمته له أمريكا بعد التفريط في السلطة، وأنه جاهز لأن يموت أو أن يضرب بسلاحه كل من يحاول أن ينتزع منه السلطة، فقال في خطابه "أنا معمر سلاحي وما في كلام لعب جيشنا بنحميه بروحنا في أي لحظة وندافع عنه طالما بدافع عن السودان"، والذي جعل البرهان يتحدث بهذه اللهجة هو أن الجيش لا زال بيده وتحت قيادته وليس هناك ضابط أو جندي حاد عن هذا الخط المرسوم بعناية ودقة، باعثا رسالة مهمة إلى أمريكا بأن الجيش لا زال جيشها وأن أوروبا لن تجد لها موضع قدم فيه طالما هو على قيادته، فعلى أمريكا أن تستمسك به أكثر من غيره لأنه يستطيع أن ينفذ كل ما تطلبه منه، وقد أحال عددا من الضباط للمعاش مؤخراً.
وإذا أخذنا تلك التغريدة على تويتر من وزير الخارجية الأمريكي نجدها تصب في هذا الاتجاه وتؤيد تمسك أمريكا بقادة الجيش، فقد جمدت أمريكا عقوبات على قادة الجيش صادرة من الحكومة الأمريكية كما نقلت صحيفة فورين بوليسي عن الخارجية الأمريكية. أما تغريدته في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2022م بمناسبة مرور عام على الانقلاب فقد حذر فيها عملاء أوروبا الذين يسعون لعرقلة التحول الديمقراطي في السودان صراحة قائلاً: "إن أمريكا لديها من الأدوات التي يمكن استخدامها ضد من يعرقلون التحول الديمقراطي وعدم القبول بالتسوية السياسية التي رسمتها أمريكا عبر الحوار عن طريق الآلية الثلاثية"، فهذا يعتبر ضوءاً أخضر من أمريكا للبرهان باستخدام السلاح ضد من يقفون في وجه هذه التسوية، والمضي قدماً في تكوين حكومة مدنية، فلا يمكن للشعب أن يظل ثلاث سنوات من غير حكومة كما ذكر البرهان في خطابه.
عليه فإن أمريكا تسعى لفرض حكومة مدنية منقوصة الصلاحيات قبل حلول الانتخابات التي أعلن عنها البرهان من قبل وموعدها تموز/يوليو 2023م، وهو ما قاله وزير الخارجية الأمريكي في تغريدة: "يجب إنهاء الانقلاب وتشكيل حكومة مدنية في السودان"، وإنهاء الانقلاب لا يقصد به إزالة البرهان، بل حكومة مدنية منقوصة في فترة الانتقال، وتكوين مجلس أعلى للدفاع والأمن. والآن يجري حديث حول إدخال تعديلات على مشروع الدستور الانتقالي، بل هناك اقتراح بأن يكون هناك رئيس للسودان، ورئيس لمجلس الوزراء في هذه الفترة الانتقالية إلى حين إجراء انتخابات، فهذه التسوية تمر بمخاض عسير لحين ولادتها مشوهة.
أما الأوضاع الداخلية التي دفعت بالبرهان إلى خطابه هذا فإنه يريد أن يبعث برسالة إلى أوروبا بعد الكشف عن حمدوك بأنه عميل لأوروبا، وقد تحدثت أنباء عن عودته مرة ثالثة مشترطاً أن كل مؤسسات الاقتصاد وشركات الجيش تتبع لوزارة المالية عدا المؤسسات ذات الصناعات الحربية، إن أوروبا هي التي تصارع الجيش وقادته وتحملهم مسؤولية تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية، ففي 26/10/2022 قال الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل: "إن الجيش يتحمل مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية والأمنية في السودان"، وأضاف "يتحمل الجيش مسؤولية خاصة عن ذلك"، وأضاف: "يجب على جميع الأطراف إبداء تنازلات"، وهذا الهجوم ذكره البرهان في خطابه قائلاً: "إن القوات المسلحة تتعرض لهجوم شديد"، واصفا بأن هناك خطوطاً حمراء، ذاكراً بأن الجيش خط أحمر، فهو أي البرهان يؤكد أن أوروبا هي التي تسعى لتفكيك الجيش، وقال: "لا يمكن السكوت عنه"، والجدير بالذكر أن رئيس الوزراء السابق كان يتعرض إلى هيكلة الجيش في سياسته، بحيث يخضع وزير الدفاع والداخلية لسلطة رئيس الوزراء وهو ما ترفضه أمريكا بشدة على لسان البرهان.
أما الحديث عن الإسلاميين وحزب المؤتمر الوطني، فإن من تداعيات مسيرة 29/10/2022م التي خرجت بترتيب من العسكر تحت مسمى كرامة السودان، بقيادة التيار الإسلامي العريض، التي نددت بالتسوية السياسية الثنائية بين المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والعسكر، واصفة ذلك بالعلمانية، والوقوف ضد التدخلات الأجنبية، والوقفة أمام مقر البعثة الأممية والمطالبة بطرد رئيس البعثة فولكر من السودان، فقد أبرزوا شعارات أزعجت البرهان مثل (خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد بدأ يعود)، ما سبب حرجا بالغاً للبرهان الذي يقود مسيرة التطبيع مع يهود، فهذه رسالة واضحة لهذه القوى السياسية بالالتزام بالخط المرسوم لها، والابتعاد عن الإسلام وشعاراته، وحصر الأمور في الإطار الوطني، وإلا سيكون مصيرهم كمصير الإخوان في مصر مع السيسي، فالبرهان يبعث برسالة واضحة لأمريكا قبل توجهه لمؤتمر المناخ بشرم الشيخ بأنه قادر على إسكات هذه الأصوات ومحاصرتها، وأن حاضنته الشعبية بمنأى عن الإسلام.
أما تأثير خطاب البرهان على التسوية السياسية فهذه التسوية ليست بيده ولا بيد قوى الحرية والتغيير، الذين هم كقطع الشطرنج يحركها اللاعبون الأساسيون، فما يقوله اليوم يبلعه غداً، وما وصف البرهان لملكة بريطانيا بأنها قتلت أجدادنا في كرري، ومطالبته بالتعويض، ولبريطانيا بالاعتذار، فإذا به يبلع تصريحاته في مهانة وذلة فيذهب خانعا لحضور وتشييع جنازة الملكة، حيث جاء الأمر لفك عزلته الدولية، فهذه التسوية بيد أمريكا وبريطانيا لا بيد أهل السودان.
هذا الصراع الدولي على السودان يحتم على أهل السودان اجتثاثه بإعطاء قيادتها لحزب التحرير لأخذ النصرة من الجيش لاستعادة سلطان الإسلام المغتصب، وإعلانها خلافة راشدة على منهاج النبوة.
بقلم: د. أحمد عبد الفضيل
عضو مجلس حزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع