إنّ المدقّق في السياسات التركية الخارجية وبالرغم من كونها تُحقّق مصالحها الإقليمية إلا أنّها في مُجملها تصب في خدمة المصالح الأمريكية، سيما فيما يتعلّق بالشؤون الاقتصادية والسياسية، فهي لا تخرج عن الدوران حول المحاور السياسية للخارجية الأمريكية.
فتُركيا مثلاً مدعوّة للمشاركة في خط (إيست ميد) لمد أنابيب نقل الغاز من شرق البحر المُتوسط إلى أوروبا بالتعاون مع كيان يهود ومصر واليونان وقبرص، فقد أعلن وزير الطاقة في كيان يهود يوفال شتاينتز عن استعداد حكومته للتعاون مع تركيا في مجال غاز شرق المتوسط لتكون تركيا "شريكاً إقليمياً" بدلاً من التصارع مع دول الإقليم.
وهذا المشروع هو في الأصل مشروع أمريكي لمد أطول وأعمق خط أنابيب بحري في المنطقة، تُشرف هي عليه، وتستثمر فيه كبريات الشركات الأمريكية، ويهدف إلى توفير 10% من حاجات دول الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي، وتهدف أمريكا منه إلى تخفيف تبعية أوروبا لروسيا في مجال الغاز، وضرب الخط الروسي الألماني المسمّى نورد ستريم 2، أو مُنافسته، والتقليل من أهميته.
وما كانت تركيا لتُدعى للمشاركة في هذا الخط لولا الضغط الأمريكي، لا سيما وأنّها في حالة خصومة مع اليونان وقبرص حول الجرف القاري في البحر المتوسط.
وكانت تركيا مُستبعدة أصلاً من المشاركة في هذا الخط الذي أعلن عنه كيان يهود واليونان وقبرص العام الماضي وهو ما أثار حفيظة تركيا، ويبدو أنّ أمريكا باتت تُدرك أنّ نجاح إنجاز هذا الخط مُرتبط بمشاركة تركيا فيه، فبدأت التمهيد لإشراكها أولاً من خلال دعوة كيان يهود لتركيا لتكون شريكا إقليمياً في هذا المشروع، وثانياً من خلال منح تركيا حصة في الجرف القاري للبحر المتوسط، وضرورة إعادة ترسيم الحدود البحرية من دون حرمان تركيا منها بذريعة حجبها من قبرص التي كانت قد مُنحت حصتها في الترسيم السابق بين اليونان وقبرص من جهة وبين مصر وكيان يهود من جهة ثانية، وهو ما لم توافق عليه تركيا ممّا دفعها إلى توقيع اتفاقية ترسيم حدود مع ليبيا من خلال حكومة فايز السراج، فأدخلت المنطقة بذلك في متاهة ترسيم الحدود، وحصلت توترات بين تركيا من جهة وبين قبرص اليونانية واليونان من جهة أخرى.
ويبدو أنّ أمريكا قد رأت أنّ استبعاد تركيا قد يؤدي إلى فشل مشروع إيست ميد فدعمت إشراك تركيا فيه، وضغطت على دول المنطقة لإعادة ترسيم الحدود البحرية بين تلك الدول ومنح تركيا حصتها من الجرف القاري والتي تتجاوز جزيرة قبرص.
وما يُشير إلى سير تركيا مُستقبلاً في هذا المشروع هو إقرار الحكومة الليبية الجديدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة لاتفاقيتي التعاون الأمني وترسيخ الحدود البحرية بين تركيا وليبيا اللتين وُقّعتا بين رئيس الحكومة الانتقالية السابق في طرابلس فايز السراج وبين حكومة أردوغان، ولم تعترض عليها مصر ولا أي دولة معنية بالصراع في ليبيا، وهو ما يدل على رغبة أمريكا في إشراك تركيا في مشروع إيست ميد بالرغم من اختلاف المصالح التركية اليونانية في تقاسم ثروة الغاز شرقي المتوسط.
وما يُدعّم هذا التوجه الأمريكي الجديد هو ما نُشاهده في ذلك التقارب المصري التركي الأخير الذي يُعتبر تغييراً جوهرياً في العلاقات بين الدولتين، حيث تنازلت تركيا عن دعم المعارضة المصرية، ومنعت النشاط السياسي للقنوات المصرية المعارضة للسيسي التي تبث من تركيا، مُقابل وقوف مصر إلى جانبها في مسألة إعادة تقاسم الجرف القاري لمصلحتها وتراجعها عن اتفاقها السابق مع اليونان وقبرص.
وأمّا السياسة التركية المتعلقة بالحالة الأفغانية فإنّها تنشط هذه الأيام في خدمة سياسة بايدن الجديدة تجاه أفغانستان، حيث تمّ الاتفاق على عقد مؤتمر تصالحي بين حكومة أشرف غاني الأفغانية وبين حركة طالبان في تركيا، وذلك بعد أن زار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قطر واجتمع بالمسؤولين فيها في التوقيت نفسه الذي كان فيه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يزور قطر، وفي التوقيت نفسه أيضاً التي كانت تستضيف فيه الدوحة زلماي خليل زادة المبعوث الأمريكي لأفغانستان، وديبورا لايونز مبعوثة الأمم المتحدة لأفغانستان.
وبالرغم من أنّ الرئيس الأمريكي بايدن يتخذ ظاهرياً موقفاً فاتراً من الرئيس التركي أردوغان بسبب انتقاده لملف الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا، إلا أن ذلك لم يمنع من توثيق العلاقات بينهما، ومنها مثلاً إجراء تدريبات مشتركة بين قوات البلدين في البحر المتوسط، فلقد تمّ الاتفاق بينهما على إجراء تدريبات مشتركة شرقي المتوسط بهدف رفع مستوى التعاون العسكري، فقالت المصادر التركية إنّ الفرقاطة التركية TCG Gemlik ستشارك يوم الخميس إلى جانب حاملة الطائرات الأمريكية آيزنهاور بمصاحبة عدد من الطائرات.
فتركيا دولة مهمة لأمريكا في المنطقة، وهي عضو نشط في حلف الناتو، وأمريكا تستخدمها في سوريا وليبيا بمشاركة روسيا، ونجحت في المهام التي قامت بها في هذين البلدين، واستخدمت كذلك في أذربيجان، وربما تستخدم مع السعودية في اليمن، وهناك أخبار تتردّد عن تحسين العلاقات التركية مع السعودية، وتزويدها للسعودية بطائرات تركية الصنع من غير طيار لمساعدتها في تقوية دورها المتآكل في اليمن بسبب قوة الدور الإماراتي فيه.
رأيك في الموضوع