الرابع من آب 2020م، يومٌ لن ينسى في تاريخ لبنان، حيث أمسى الناس على دمارٍ عظيمٍ في العاصمة بيروت، للوهلة الأولى ظن أهل المدينة الأمر زلزالاً ضربها، حتى إن الأردن أعلنت تسجيل ما يعادل 4.5 درجة على مقياس ريختر لقياس قوة الزلازل! لكنه ليس زلزالاً، إنه انفجار في مرفأ بيروت، لعنبرٍ من عنابر التخزين، العنبر رقم 12! بدأ الأمر بحريقٍ، حاولت فرقةٌ من الدفاع المدني التعامل معه بشكلٍّ طبيعي، إلا أن المفاجأة التي سجلتها كاميرات عديدة، انفجارٌ على شكل الفطر، كما في حالة التفجيرات النووية، وسحابةٌ ضخمةٌ بلون قرمزي، وموجةٌ انفجاريةٌ طالت كل المدينة تقريباً، فتساقطت معها الواجهات الزجاجية، ودمارٌ وإصابات حتى لمن هم داخل بيوتهم وفي سياراتهم، في دائرةٍ لا يقل قطرها عن 7 كيلومترات.
انقشعت سحابة الانفجار عن حقيقةٍ صادمةٍ، ليس لمشاهد الدمار المهولة، بل لمخزنٍ، هو العنبر رقم 12، الذي كان يحتوي على 2750 طناً من مادة نترات الأمونيوم، التي تستخدم في صناعة المتفجرات، مكدسةً هناك منذ العام 2014، بشكل عشوائي عبثي، والحجة أنه تمت مصادرتها من سفينة كانت تمر من مرفأ بيروت، وأن هذه الشحنة مهربة! فتمت مصادرتها ووضعها في هذا العنبر!
ومنذ ذلك الحين وهي مكدسةٌ هناك، تعلم بأمرها وخطرها الجهات الرسمية والأمنية، لكنها لم تتعاطَ مع الأمر بما هو مطلوب، بل تُرك الأمر في مكانٍ فيه يدٌ طولى لحزب إيران في لبنان، الذي يعد هو الأكثر حاجةً لمثل هذه المواد - مع وجود الحظر العالمي على تداولها إلا من الدول - وبخاصةٍ خلال عمله في حماية نظام آل الأسد، وتزويده بكل ما يلزمه. ولا يُستبعد أن جزءاً كبيراً من هذه المواد قد ساهم في صناعة البراميل المتفجرة التي ألقيت على روؤس الناس في الشام!! ومن يستطيع أن يثبت أن المواد المتبقية في هذا العنبر، ما زالت كما هي، أي 2750 طناً؟! فقد قدرت بعض التقارير أن حجم الانفجار يعادل 300-800 طناً من نترات الأمونيوم، ولو كانت الـ2750 طناً ما زالت هناك لمسحت مدينة بيروت عن خارطة لبنان.
لقد كثرت الأقاويل عن قصفٍ لطيران يهود للمخزن كونه يحتوي أسلحة لحزب إيران، وصنفوه ضمن سلسلة الضربات التي يوجهها يهود لحزب إيران وإيران في سوريا، وذهب بعضهم إلى أنه حريق أدى بشكلٍ ما إلى هذا الفعل الانفجاري... إنه وإن كان الأمر الثاني هو المرجح حتى اللحظة، أي الحريق، لكن القضية الجوهرية التي ينبغي التركيز عليها في هذا الباب هي: كيف يُسمح لمواد شديدة الانفجار، بغض النظر عن كونها أسلحةً أو غيرها، أن تكون موجودةً في مرفأ متصلٍّ بالمدينة، يعتبر عصباً حيوياً للبلد، ووسط مناطقَ سكنيةٍ مأهولةٍ؟! إذ القطعي هو وجود هذه المواد شديدة الانفجار في هذه المستودعات! سواء أكانت أسلحة لحزب إيران استهدفتها طائرات يهود، أو مواد شديدة الانفجار مخزنةً في المرفأ بكمياتٍ ضخمةٍ وبشكلٍ عبثي، أنتج هذا الانفجار الضخم.
هذا السؤال يسلط الضوء على حقيقة الفساد الضارب في نخاع الدولة اللبنانية، ما جعل للمتسلطين على الدولة، لا سيما حزب إيران في لبنان، اليد الطولى لبقاء هذا الأمر طيَّ الكتمان لسنواتٍ عديدةٍ مع وجود الخطر، وقبول المتحالفين معه، من أمثال عون وتياره، قبولهم بهذا الوضع، حفاظاً على هيمنتهم على لبنان، ومن ورائهم أمريكا، واستمرارهم شرياناً يمد نظام آل الأسد المجرم بالحياة، ولو على حساب أمن أهل لبنان وسلامتهم! لذلك لا يمكن تبرئة حزب إيران وأحلافه في البلد من الأمر، وبخاصةٍ نسبة هذه المواد إليه. وواضحٌ تحسس حزب إيران لرأسه، بسبب هذه المحرقة السياسية التي دخل فيها، ما جعل رئيس كتلته في البرلمان، المعروفة بكتلة الوفاء للمقاومة، جعلته يحضر اجتماع ماكرون بقادة الأحزاب في لبنان! وجعلته يجلس على طاولةٍ واحدةٍ مع من يعدهم شياطين وأعداءً! بل جعلته يقف في حديث جانبيٍّ مع ماكرون، ثم يذكر لإحدى الصحف اللبنانية أنه قال لماكرون: "ليس لدينا مشكلة في أن نتحدث بعضنا مع بعض، ولكن المشكلة هي أنّ ما نتّفِق عليه لا ننفذه، بدليل أننا أقرّينا اتفاق الطائف ولكننا لم ننفّذه"، وذلك بعد وصفه لكلام ماكرون بأنه "واقعي"!
زيارة ماكرون هذه التي جاءت بسرعةٍ بعد حادث الانفجار، في محاولةٍ واضحة لاستثمار الحدث، ولو بشكلٍ نسبي لمصلحة فرنسا، التي تعد نفسها راعية لبنان الأساسية، في مشهد يشبه اندفاعها هي ورجالاتها بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005م، واستثمار الحدث لإخراج النظام السوري وأجهزته العسكرية والمخابراتية، ونجحت في ذلك، دون أن تفلت سيطرة أمريكا على لبنان. بل كانت عودة عون إلى لبنان في حينها مفاجأةً صادمةً لرجالات أوروبا، الذين ظنوا أنه قادمٌ من فرنسا ليكون في صفهم، وإذا به يصطف إلى جانب محور سوريا، ولاحقاً يتحالف مح حزب إيران!
تحركُ الفرنسيين، ليس تحركاً منفرداً على ما يظهر، فقد كانت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية مورغان أورتاغوس صرحت في 1/7/2020م في مقابلة مع قناة الحرة قائلةً: "أمام القادة اللبنانيين خيارات صعبة وسنفعل ما بوسعنا للعمل مع الفرنسيين وغيرهم من أجل مستقبل أفضل للبنان". وقد كانت أمريكا استعانت بفرنسا في قضية اعتقال سعد الحريري في السعودية في شهر 11/2017، بل إن ماكرون في معرض حديثه خلال زيارته هذه إلى لبنان، أشار بشكلٍ واضح إلى التعاون مع واشنطن في هذا الشأن حيث قال: "فرنسا ستكون حاضرة لتنسيق الدعم الدولي للبنان مع البنك الدولي والولايات المتحدة، وسنحضر لمؤتمر دولي لدعم لبنان"، لتعقبه أخبار يوم السبت 8/8/2020م عن اتصالٍ من ترامب مع عون أكد فيه مشاركته في مؤتمر باريس لدعم لبنان الذي دعا إليه ماكرون، ثم تصريحاتٌ للجامعة العربية على لسان أمينها العام أحمد أبو الغيط تدعم لبنان، وتعرض المساعدة للوصول إلى تحقيق شفاف.
أما لماذا فرنسا وليست أمريكا بشكلٍ مباشر؟ لأن فرنسا هي الأقدر على جمع هؤلاء الأفرقاء، حيث لا تستطيع أمريكا أن تظهر في مثل هذا المشهد، في لقاءٍ مباشرٍ مع الجميع، لا سيما حزب إيران اللبناني، لذلك ففرنسا هي المندوب الأجدر للسير في هذا الملف. ولا شك أن فرنسا ستكون لها مكتسبات من هذا التحرك، وأمريكا قد لا تمانع، بناءً على سياسة الحل الوسط التي تمارسها في أعمالها السياسية، دون أن تخسر قبضتها على مفاصل لبنان.
رأيك في الموضوع