كل من يتابع الأحداث السياسية في العالم وفي المنطقة العربية على وجه الخصوص يدرك حرص الإدارة الأمريكية على نظام أسد في سوريا، وهذا له أسباب تتعلق بالطرفين؛ فحافظ أسد هو من ثبّت نفوذ أمريكا في سوريا، وأزال النفوذ الإنجليزي منها، بالإضافة لموقع سوريا الاستراتيجي المهم في قلب البلاد الإسلامية، الذي يعطي أمريكا ورقة مهمة في العالم.
إن السياسة الأمريكية منذ صعودها ودخولها ساحة الصراع الدولي بعد انتصارها مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وتفردها لاحقاً بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بمركز الدولة الأولى في العالم بدون أي منافسة، تتبع سياسة إدارة الأزمات، أي أنها عندما تواجه مشكلة أو أزمة بأي شأن من شؤونها وفي أي منطقة من مناطق نفوذها في العالم، فإنها لا تعمل على حل هذه المشكلة أو الأزمة ومعالجتها، وإنما تقوم باستثمارها وامتطائها وإدارتها والاستفادة منها بأكبر قدر، بغض النظر عما تسبب هذه المشكلة من مصائب وضحايا ونكبات.
وهذا ما حصل ويحصل في قضية سوريا.
وقبل الدخول لموضوعنا يجب علينا استعراض بعض المحطات، وكيف تعاملت معها الإدارة الأمريكية، فهناك أحداث متقاربة ولافتة للنظر يجب ألا تغيب عن أذهاننا، وأن نتذكرها كي نعلم خبث الدور الأمريكي في إدارة جرائم عميلها أسد، وكيف تم تمييعها وتحويلها إلى قضايا تخضع لقوانين دولية غير فاعلة، لأسباب تفرضها الدول المتحكمة في هذه المحاكم والمحافل الدولية.
وأولى هذه الجرائم هي جريمة مقتل رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق حيث عمدت أمريكا وبمشاركة من دول أخرى إلى إنشاء محكمة دولية بخصوص الجريمة، وكانت أمريكا هي الدولة الأكثر نفوذا في تلك المحكمة، لأنها تحملت أعباء تمويل إنشاء المحكمة، وبالتالي أصبحت المتصرف في مجريات المحاكمة إلى أن أخرجت عميلها من التهمة، وأعادت تنظيفه مما تلطخ به من دماء، ليستمر في خدمة مصالحها وتثبيت نفوذها في أهم منطقة سياسية في البلاد الإسلامية، وإعادته للمنظومة الإقليمية عبر باقي عملائها من حكام المنطقة، ولاحقا للمنظومة الدولية.
وثانية هذه الجرائم هي جريمة الكيماوي التي ارتكبها نظام أسد أكثر من مرة في الغوطة وفي خان شيخون بريف إدلب، والتي ضجت بها الدنيا وقامت ولم تقعد، فسارعت أمريكا وتبنت معاقبة الفاعل، وبدأت ترعد وتزبد وتهدد حتى شعر الجميع بأن النظام انتهى، ووكل أمر المعاقبة إلى أمريكا، وبعد أن شعرت بأن ملف الكيماوي أوكل لها بشكل كامل وأصبحت هي المسؤولة عن معاقبة الفاعل، وإذ بها تكتفي بمطالبة الفاعل بتسليم أدوات الجريمة، في رسالة واضحة أنها لن تتخلى عن عملائها المخلصين ولو ارتكبوا أفظع الجرائم وأشنعها.
واليوم نشهد مسرحية جديدة متعلقة بملف المعتقلين الذين بلغ عددهم مئات الآلاف وأغلبهم كما يعلم الجميع تم قتلهم في سجون نظام المجرم أسد، لذلك وجدت أمريكا لزاما عليها أن تسعى لإنقاذ النظام من هذه الورطة بطريقة خبيثة تشبه ما سبقها، وفي الوقت نفسه تستفيد منه لإغلاق ملفات أخرى، لا تقل خبثا عن سابقاتها، فلجأت إلى افتعال فيلم رومانسي (قانون قيصر) الذي هو فعلياً سيُخرج النظام من هذا المأزق، وقد يستغرب القارئ هذا الكلام، ولكن عندما يتذكر قارئنا العزيز كيف تم إغلاق ملف اغتيال الحريري، وكيف تمت السيطرة على ملف الكيماوي، سيعلم أن ما يجري من تفعيل لقانون قيصر هو مكر أمريكي جديد، سيُخرج النظام من تحت التسلط الروسي الذي انتهى دوره وآن أوان العمل على إخراجه من سوريا، وسيرفع الوصاية الإيرانية عن النظام، لأن إيران قد أنهت مهمتها في منع إسقاط النظام عسكرياً، وآن أوان خروجها هي الأخرى، وبذلك تُحكم أمريكا قبضتها السياسية والعسكرية على سوريا مرة أخرى، وليبقى ملف المعتقلين، الذي يجب إخراجه للعلن والتلويح بمعاقبة النظام على جريمة قتلهم، مع ما يرافق ذلك من دجل وكذب إعلامي، وتطبيل وتخدير، وقد بدأ ذلك من خلال تسريب الصور وأنهم قتلوا وأصبحوا من الذاكرة، وعندما تطمئن أمريكا أن الملف أصبح بيدها، ستقوم بإغلاقه بعد أن تكون قد استثمرت فيه قدر المستطاع، فهذه هي أمريكا المجرمة التي تستثمر في معاناتنا ودماء أبنائنا التي سفكها عميلها ونظامه المجرم، فيما لا زال بعض أبناء الثورة والمحسوبين عليها يطبلون لأمريكا ولحلها السياسي ويعتبرونها المخلّص!
هذه هي السياسة الأمريكية وهذه هي الطرق والأساليب التي تستعملها للمحافظة على نفوذها وحماية نظامها العميل في سوريا رغم كل جرائمه التي أصبح يعرفها القاصي والداني، تتسلط على رقاب الجميع وتدعم الطغاة والمجرمين وتكذب وتحتال وتستعمل النظام الدولي ومنظومته في خدمة مشاريعها وحفظ نفوذها، وهذا هو عميلها المدلل، الذي من السذاجة أن يُطلب منها أو يُنتظر منها أن تحاسبه، ومن الهوان أن يُعتمد عليها في معاقبته، فأمريكا هي الراعي الرسمي لهذه الجرائم وأيديها ملطخة بدماء معتقلينا كما هو حال العصابة الأسدية.
أخيراً أعظم الله أجركم يا أهلنا في الشام وأعانكم الله وصبركم وتقبل شهداءكم، وأسأل الله العظيم أن ينتقم ممن أجرم بحق أبنائكم شر انتقام، وأذكركم بحديث رسول الله ﷺ الذي قال فيه: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»، حتى تعلموا أن عدوكم يكيد كيداً عظيماً، ويستعمل لذلك التضليل والخداع، فانظروا بنور الله إلى ما يحاك لكم، ولا تكونوا كمن سبقكم، فلا تنقصكم الفراسة لكشف الألاعيب، ولا تقعوا فريسة الدعاية المغرضة والتصريحات الإعلامية المخادعة، التي تجعلكم تصدقون أمريكا وقيصرها وقوانينها ومنظوماتها، وتذكروا حديث رسول الله ﷺ: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ»، فلا تعلقوا قلوبكم إلا بالله المنتقم الجبار الذي سيعينكم على إنهاء جبروت أمريكا وعملائها المجرمين في الدنيا وينتقم منها ومن أزلامها في الآخرة... ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾.
رأيك في الموضوع