هناك ما يشبه المتلازمة الثنائية بين تبعية الحكام ووجود عقدة نقص سياسية لديهم، فالحاكم التابع الذي يأتمر بأمر الأجنبي غالباً ما تُعاني شخصيته من عقدة نقص خطيرة تتمثل في خضوعه خضوعاً آلياً للتعليمات الخارجية التي تُرسل إليه من هذه الدولة الكبرى أو من تلك، فضلاً عن أنّه يميل إلى التمسك الشديد بما يُسمّى بالشرعية الدولية فيما يخص قضايا أمته أو شعبه، ولو تعارضت هذه الشرعية مع المصالح الحيوية لبلاده.
ومن الأمثلة الحديثة على هذه الظاهرة المَرَضية والتي تدل على وجود عقدة النقص هذه لدى هؤلاء الحكام التابعين عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السوداني الذي خرج من فمه تصريح غريب مفاجئ فوّض فيه مجلس الأمن بإنشاء بعثة خاصة تحت الفصل السادس لنشر قوات أممية تحت قيادة موحدة تقوم بدورها الاستراتيجي في السودان بشكل متكامل ومتوائم وموسع، فلا تقتصر على دارفور كما هو حال قوات اليوناميد الموجودة منذ أيام البشير وحسب، بل وطالب بأن تنتشر هذه القوات الأممية في كل المناطق السودانية، بما يفسّر وكأنّه عودة جديدة للاستعمار المباشر.
فكما فاجأنا رئيسه عبد الفتاح البرهان باجتماعه الصادم بنتنياهو، فاجأنا حمدوك بمطلبه الغريب هذا، وكأنّه يتنافس مع البرهان في الارتماء بأحضان الكافر المستعمر، فذاك يرتمي بأحضان أمريكا وهذا يرتمي بأحضان الأوروبيين.
وأمّا محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية فلم يفاجئنا بطلبه انعقاد مؤتمر دولي يلتزم بالقرارات الدولية لحل القضية الفلسطينية كعادته وحسب، بل كانت المفاجأة في خطابه الذي ألقاه في الأمم المتحدة بالتزلف الشديد ليهود الغاصبين لدرجة تكفيره لكل من يعادي اليهود، وإظهار رغبته بإقامة ما أسماه بأحلى سلام بين الدولتين الفلسطينية واليهودية، أي بين الدولة المسخ التي يريدها على 22% من فلسطين فقط وبين دولة يهود التي منحها 78% من أرض فلسطين التاريخية، علماً بأنّه هو نفسه قال في الخطاب نفسه بأنّ الهيئة الأممية عجزت عن تطبيق 87 قراراً صدر عنها بخصوص القضية الفلسطينية.
ومثل محمود عباس سائر الحكام العرب ومنهم الرئيسان الجزائري عبد المجيد تبون والتونسي قيس سعيّد اللذان قرّرا في اجتماع لهما في الجزائر بأن حدود فلسطين هي حدود عام 1967 وأنّ ما سواها تابع لدولة يهود، وكأنّهما وجدا أنّ قرارات الأمم المتحدة قدراً لا يرد.
وآخر مثال على وجود عقدة النقص في هذا السياق ما يظهر على الرئيس التركي من تصرفات ظاهرها التحدي والتصعيد، وحقيقتها الاستجداء والتوسل من أمريكا وروسيا ما يحفظ به ماء وجهه في إدلب بشكل خاص.
فتكرار قيام قوات بشار الأسد الهزيلة عسكرياً بقتل جنود أتراك موجودين في نقاط المراقبة التركية العسكرية المتفق عليها مع روسيا وفقاً لاتفاقية سوتشي المتعلقة بخفض التصعيد في منطقة إدلب قد ألحق إهانةً كبيرة بهيبة الجيش التركي، وهو ما حدا بأردوغان لاستنفار جيشه وحشد أكثر من ألف مركبة عسكرية بما تحمل من كل أنواع العتاد العسكري، إضافةً إلى عشرة آلاف مقاتل وإدخالهم إلى المناطق السورية المحاذية للحدود موهماً الرأي العام بقدرته العسكرية على الرد على استفزازات نظام الأسد.
لكنّه مع كل هذا الحشد الضخم لم يستطع استخدام هذه القوة في أي عمل عسكري حاسم ضد نظام بشار وذلك بسبب عدم تلقيه الضوء الأخضر من أمريكا للقيام بأي شيء منفصل عن الأجندة الأمريكية والروسية، فحصلت اتصالات واجتماعات كثيرة بين المسؤولين الأتراك وبين المسؤولين الأمريكان والروس ولكنها لم تتمخض عن أي شيء، وبقيت القوات التركية في مكانها لم تتقدم سنتيمتراً واحداً، كما لم تُراوح المواقف الأمريكية والروسية مكانها، ولم تسمح لأردوغان القيام بأي عمل سوى الجعجعة الكلامية.
ولم تكن تهديدات أردوغان في الواقع سوى حالة من التخبط السياسي وموجة من الصخب الإعلامي التي اعتاد عليها الناس، خاصة وأنّ قوات بشار استمرت في قضم المناطق التي تخضع للفصائل التابعة لتركيا.
ولقد كشف المحلل العسكري محمد صفوت الزيات خطة التآمر العسكري للقوات التركية والمتمثلة في تواطئها مع الروس ضد الثوار وضد الفصائل السورية المعارضة فقال: "إنّ نقاط المراقبة التركية لا تمنع عدوانا ولا تسعف جريحا ولا توقف قصفا ولا تساعد نازحا ولا تفتح ممرات آمنة لهروب الفارين من القصف، ولا تغيث ملهوفا، ومهمتها الحقيقية يمكن اختزالها في الإشراف على انتشار النظام وتقدمه، فهي بمثابة مراصد عسكرية روسية متقدمة ترفع العلم التركي، تسهل انتشار قوات النظام في المناطق التي ستدخلها بترتيب مع الروس".
هذه مجرد نماذج بسيطة من واقع تبعية الحكام وعقدة النقص السياسية لديهم وما تؤول إليه من نتائج مدمّرة تؤكد تآمرهم ضد قضايا شعوبهم وخيانتهم لدينهم وأمتهم.
رأيك في الموضوع