عقدت أمريكا مؤتمرها للسلام والأمن في الشرق الأوسط في وارسو عاصمة بولندا يومي 13و14/2/2019 فحضره نائب رئيسها بنس ووزير خارجيتها بومبيو وممثلو 63 دولة منها 11 دولة عربية. فجلس ممثلو الأنظمة العربية العميلة مع رئيس وزراء يهود نتنياهو وأكلوا معه الخبز والملح. مما يشير إلى أن أحد أهداف المؤتمر هو التطبيع بين الأنظمة العربية والعدو المغتصب لفلسطين.
وركز بنس وبومبيو على دعوى التهديد الإيراني للمنطقة فقالا "إيران أكبر تهديد للسلم والأمن في الشرق الأوسط" ومثل ذلك قال رئيس وزراء يهود وممثل النظام السعودي الجبير الذي قال: "أجمع الجميع بأن التحديات التي تواجهنا يتصدرها الدور الإيراني في زعزعة أمن واستقرار المنطقة"؛ وذلك لصرف الأنظار عن العدو المغتصب واعتباره كيانا طبيعيا يجب القبول به والتعايش معه، وجعل إيران هي العدو وليس كيان يهود. والمبررات موجودة، وهي تدخّل إيران في سوريا والعراق واليمن والبحرين ولبنان، علما أن ذلك حصل بإيعاز أمريكي، ولم تمس أمريكا القوات الإيرانية ولا التابعين لها من حزبها اللبناني والحوثيين إلى الحشد الشعبي الذي كان يقوده ويموله الإيرانيون ودعمهم للنظام العراقي التابع لأمريكا، والتنسيق الذي تجريه في البحرين مع أتباع إيران واتصالها بهم بصورة علنية.
وحضر المؤتمر اليهودي الأمريكي كوشنير صهر ومستشار ترامب والذي يشارك في وضع خطة أمريكية للشرق الأوسط، فجاء يروج لها من دون ذكر تفاصيلها لإيجاد رأي عام حولها. وذكر أن "الخطة لن تعرض قبل الانتخابات العامة التي ستجري في (إسرائيل) يوم 9/4/2019". مما يشير إلى أن أمريكا لا تريد أن يستغلها نتنياهو في حملته الانتخابية فتعرض فيما بعد لتقوم بممارسة الضغوطات على حكومة يهود القادمة.
وطالب بومبيو "بالتقريب بين دول المنطقة والابتعاد عما أسماه بالتفكير التقليدي الذي يعزل (إسرائيل). وإن أمريكا تهدف من خلال المؤتمر إلى جمع الدول التي لها مصالح مشتركة في المنطقة وهو يؤسس للعمل المشترك لمواجهة التحديات والأزمات في الشرق الأوسط". ومن مساعي أمريكا تأسيس "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي" ويعرف باسم "ناتو عربي" من دول الخليج ومصر والأردن، لتركيز نفوذها ومنع نهضة الأمة وإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
ولهذا استعرض وزير آل سعود الجبير "إنجازات النظام السعودي في محاربة الإسلام تحت مسمى محاربة (الإرهاب) وتأسيسه لتحالف عسكري من أجل هذه الغاية أطلق عليه كذبا وزورا تحالفا إسلاميا، وكذلك إقامته مركزا لمحاربة الإسلام تحت مسمى محاربة (التطرف)، وكل ذلك لنيل رضا أعداء الإسلام المجتمعين هناك وعلى رأسهم أمريكا متناسيا رضوان الله الذي يأمره بإعلان الجهاد لتحرير فلسطين وتطبيق حكم الإسلام.
وأظهرت أوروبا احتجاجا على أمريكا، فلم تحضره المفوضية الأوروبية، وحضرته فرنسا وألمانيا بتمثيل منخفض. حيث اعترض الاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا عندما قال بومبيو "إن هدف المؤتمر هو التركيز على تأثير إيران في المنطقة". فالأوروبيون يدركون سياسة أمريكا بتركيزها على إيران لإخراجهم منها. وقد طالبهم بنس في مؤتمر ميونخ للأمن والسلام العالمي يوم 16/2/2019 بالانسحاب من الاتفاق النووي، فرفضوا، وقالت المستشارة الألمانية ميركل: "الاتفاق مع إيران هو وسيلة للضغط عليها حتى تنهي تدخلاتها في المنطقة". وذلك في تحد جديد لأمريكا. ولكن وزير خارجية بريطانيا حضره "بشرط عقد اجتماع جانبي مع أمريكا والإمارات بشأن اليمن". أي أن أهم ما يشغل بريطانيا هو نفوذها في اليمن، وبذلك أرادت أن تتفق مع أمريكا لتطبيق القرارات الدولية التي استصدرتها بريطانيا في مجلس الأمن الدولي وتطبيق اتفاق السويد بالنسبة للحديدة ولتسمح للإمارات بمواصلة مهمتها البريطانية هناك.
وكذلك اختيار أمريكا لبولندا لاستضافة المؤتمر عزز حجة أوروبا لتتخذ هذا الموقف، حيث سعت بلدان أوروبية لاستضافته، وهي تحتج على تركيز أمريكا على بولندا التي هي أشبه بأن تكون عميلة لأمريكا من أن تكون دولة مستقلة ضمن الاتحاد الأوروبي وتطبق سياساته، فصارت تخالف سياساته وتطبق سياسات أمريكا أكثر. وقد طلب رئيسها أندري دادا في زيارته لأمريكا واجتماعه مع رئيسها في أيلول الماضي إقامة قاعدة أمريكية واستعداده للمساهمة بملياري دولار لتمويلها فقال مخاطبا ترامب: "آمل أن تتخذ قرار نشر المزيد من الوحدات والتجهيزات العسكرية، أرغب في رؤية قاعدة أمريكية دائمة في بولندا، وأقترح تسميتها فورت (قلعة) ترامب". ففرح ترامب وصرح قائلا: "بولندا مستعدة للمساهمة بشكل كبير لكي يكون للولايات المتحدة وجود على أراضيها، إذا كانوا مستعدين للقيام بذلك فهذا يعني بأننا سنتكلم بالتأكيد في الموضوع". فهذا الأمر يزعج الأوروبيين، حيث إن أمريكا تسعى لعسكرة أوروبا وتوتير الأجواء مع روسيا حتى تبقي هيمنتها عليهم وتضرب مصالحهم. وتحظى بولندا بأهمية بالنسبة لأمريكا في مواجهة روسيا، والتي وصفها ستالين بقوله: "بولندا خط الدفاع الأول عن الاتحاد السوفياتي" وقد فرط فيها آخر زعيم للاتحاد السوفياتي غورباتشوف.
ولهذا لم تحضره روسيا وهي تعرف أن اختيار بولندا لعقد المؤتمر وتعزيز وجودها العسكري فيها موجه ضدها، وقد أعلنت أمريكا للتو انسحابها من اتفاق الحد من اتفاقية الصواريخ المعقودة معها عام 1987، وكذلك تعارض اتخاذ أمريكا لهذا الموقف من إيران، وهي تدرك أن إيران تدور في الفلك الأمريكي، ولكن مقصد أمريكا ضرب مصالح روسيا هناك وهي تطالبها بالخروج من الاتفاق النووي.
ولم تشارك السلطة الفلسطينية في المؤتمر واتهمت باسم نبيل شعث مستشارعباس في مقال نشرته جريدة "هآرتس اليهودية" يوم 14/2/2018 إدارة ترامب بالوقوف كليا في صف حكومةيهود وبأنها تسعى إلى تطبيع احتلاليهود والإنكار الممنهج للحق الفلسطيني في تقرير المصير، معتبرا أن مؤتمر وارسو يدخل في هذا السياق. واعتبرته حركة فتح بأنه "محاولة أمريكية (إسرائيلية) للترويج لأفكار لا يقبلها أو يتعاطى معها إلا كل خائن للقدس والأقصى وكنيسة القيامة، والهدف منه تصفية القضية الفلسطينية". أما اعتراف سلطتهم بكيان يهود المغتصب لفلسطين فلا يعتبر خيانة وتصفية للقضية الفلسطينية!! فهذا موقف متناقض؛ حيث يطالب هؤلاء الدول العربية بعدم التطبيع وهم يطبعون ويعترفون بكيان يهود، ويوظفون أنفسهم لحمايته، فكانت تلك مهمة الأمن الفلسطيني تحت مسمى التعاون والتنسيق الأمني، وافتخر رئيس سلطتهم عباس بأنه أحبط مئات الهجمات على المحتلين اليهود واعتبر العمليات ضدهم حقيرة، فيمارس هو وسلطته الدجل والكذب والخيانة في وضح النهار.
إن الموقف المشرف الذي يفرضه الإسلام هو سحب الاعتراف بكيان يهود، واعتبار كل من يعترف به خائنا، والتخلي عن التطبيع والتعاون الأمني معه، والانسحاب من اتفاقية أوسلو الخيانية، ورفض مشروع أمريكا القديم حل الدولتين أو مشروعها الجديد بتعديل هذا الحل باسم صفقة القرن، وإعلان الجهاد ضد كيان يهود، فإذا اتخذوا هذا الموقف فعندها سيجعلون الدول العربية المطبّعة تتراجع تحت الضغوط الشعبية عندما يحتدم الصراع مع يهود وبذلك تسقط مشاريع أمريكا، ولا يبقى إلا مشروع الإسلام الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع