استؤنفت المفاوضات التي بدأت منذ 18 شهرا لحل القضية القبرصية يوم 9/1/2017 في جنيف، والتحق بالمفاوضين يوم 12/1/2017 زعيما شطري قبرص، الشمالي التركي مصطفى أكنجي والجنوبي اليوناني المعترف به رئيسا لقبرص نيكوس أناستاسياديس بحضور ممثلي الدول الضامنة الثلاث تركيا وبريطانيا واليونان وبحضور سكرتير الأمم المتحدة غوتيريشالذي وصف المؤتمر "بالتاريخي" وقال: "المنظمة الدولية تهدف إلى التوصل لحل دائم ومستدام للقضية القبرصية بدلا من "الحل السريع". والتحق رئيس الوزراء التركي يلدريم بالمفاوضين ليضفي جدية على المفاوضات.
علما أن المفاوضات الآن تدور حول مقترح أمريكي قديم يتعلق بتشكيل دولة فدرالية مؤلفة من كيانين يوناني وتركي. والمقصود منه إنهاء وجود بريطانيا في قبرص، حيث يوجد لها قاعدتان عسكريتان مهمتان هناك تضمان أكثر من 24 ألفا من جنودها عدا أجهزة التنصت والاستخبارات للتجسس على المنطقة ومراقبتها. وجعلت نفسها دولة ضامنة مع تركيا واليونان حسب اتفاقية عقدتها عام 1964 لضمان الوضع الذي رسمته في الجزيرة بعد الأحداث التي قام بها القبارصة اليونانيون ضد المسلمين الأتراك مباشرة وضد نفوذها غير مباشرة. وبذلك حافظت بريطانيا على نفوذها هناك حسب هذه الاتفاقية.
ولكن لا يناقش الوجود العسكري البريطاني مباشرة، وإنما يناقش الوجود العسكري التركي فقال الرئيس القبرصي يوم 13/1/2017 "علينا الاتفاق أولا على انسحاب الجيش التركي من الجزيرة". فرد الرئيس التركي أردوغان في اليوم نفسه "من المستحيل انسحاب الجنود الأتراك بالكامل وسبق أن ناقشنا ذلك. إذا كان هذا موضوع بحث فينبغي أن يسحب الجانبان جنودهما من قبرص. هناك خطة لإبقاء 650 جندياً تركياً و950 جندياً يونانياً في الجزيرة بعد التسوية" علما أن لتركيا 30 ألف جندي، ولليونان 1100 جندي. فأردوغان يظهر استعداده لسحب القوات التركية إذا كان الوجود العسكري ككل موضوع بحث ويؤدي إلى تنفيذ الحل الأمريكي.
ويناقش موضوع استرجاع عشرات الآلاف من القبارصة اليونانيين ممتلكاتهم ومساكنهم التي فروا منها سنة 1974 وتبادل الأراضي، وقد استعدت تركيا أردوغان للتنازل عن 7% من الأراضي التركية القبرصية لصالح اليونانيين بموجب خطة عنان الأمريكية عندما وافقت عليها وجعلت القبارصة الأتراك يوافقون عليها في استفتاء عام 2004. ولذلك قال أكنجي قبل مغادرته لحضور مؤتمر جنيف: "المحادثات المقبلة تشكل مفترق طرق، وهي ضرورية لتحقيق نتائج إيجابية، وليست مجرد لقاءات، ولكنها لن تسفر عن نتيجة نهائية، علينا أن نكون حذرين... لسنا متشائمين، لكن علينا أن لا نفترض بأن كل شيء انتهى، نتوقع أسبوعا صعبا". وأما رئيس القبارصة اليونانيين فقد كتب على تويتر قبل مغادرته إلى جنيف يحذونا "الأمل والثقة والرغبة بالوحدة" ولكنه تحدث قبل أيام عن "خلافات كبيرة حول ثوابت تشكل أساس الحل في قبرص".
إن الإنجليز يرضون بأي حل لا يمس وجودهم في الجزيرة، ولهذا تحدثت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي هاتفيا مع أردوغان يوم 7/1/2017 قبل بدء المفاوضات واصفين إياها "بأنها ستشكل فرصة حقيقية للوصول إلى حل عادل ودائم ينهي الانقسام في الجزيرة". وهرع وزير خارجيتها جونسون مشاركا بالمؤتمر ليضمن عدم المساس بالوجود البريطاني. وتخطط ماي لزيارة تركيا لبحث هذا الموضوع. لأنه لم تعد لدى الإنجليز قوة على مقاومة المشاريع الأمريكية حيث كانوا يعتمدون على العملاء، لكنهم فقدوا عملاءهم في الحكم في تركيا، الذين كانوا يعتمدون عليهم كثيرا في حماية نفوذهم في قبرص، حيث دفعوا تركيا للتدخل فيها عام 1963 على عهد عميلهم إينونو، وكذلك عام 1974 على عهد عميلهم أجاويد، فحافظوا على نفوذهم بعدما أشعلت أمريكا الأحداث في هاتين الحقبتين، فحركت أتباعها من القبارصة اليونانيين ليستولوا على الحكم ومن ثم يعملوا على طرد الإنجليز.
ولهذا فلن ترضى أمريكا على أن تحل القضية وتترك الإنجليز مرتاحين هناك. فلن يهدأ لها بال حتى تزيل نفوذهم وتحل محلهم وتفكك قواعدهم وتخيم فيها، فهي تصارعهم منذ ستين سنة، حيث أشعلت أولى الأحداث عام 1955. ولهذا قال الرئيس القبرصي "المفاوضات ينبغي أن تتمخض عن تغييرات جذرية في الوضع الأمني للجزيرة". وقال "حقيقة، إن إعلان الأمم المتحدة يحدد بشكل واضح عزم المشاركين على التوصل لحل مقبول للطرفين بشأن قضايا الأمن والضمانات. إنه يمثل تفويضا لمجموعات العمل لوضع أشكال جديدة (من الضمانات) تكون مقبولة وتختلف بشكل جذري عن نظام ضمانات 1960". وهذا يمس نفوذ بريطانيا كدولة ضامنة لينهي ضمانتها الخبيثة! فأمريكا تستهدف النفوذ البريطاني في كل الحلول التي طرحتها والمؤتمرات التي عقدتها والمفاوضات التي تجريها باسم الأمم المتحدة فيما يتعلق بالقضية القبرصية. فإذا لم يحل هذا الأمر فالقضية تبقى قائمة.
إن قبرص ككل قضية إسلامية تضيع في المؤتمرات الدولية والحلول الاستعمارية والمفاوضات والتنازلات. وهكذا تضيع قضايا المسلمين ويتلاعب بها لتضمن الدول الاستعمارية سيطرتها عليها. لقد انتبهت هذه الدول إلى أهمية الأعمال السياسية بعدما كانت الأعمال العسكرية هي الطاغية، والمسلمون مقاتلون شجعان دائما يهزمونها بالأعمال العسكرية، ولكن ينقصهم الوعي السياسي ليهزموها بالأعمال السياسية الصحيحة كما يمليها عليهم الإسلام لا كما تمليها عليهم هذه الدول الاستعمارية، ولهذا أسست هذه الدول المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة وعقدت المؤتمرات الدولية وأقامت التحالفات الدولية لتنفيذ قراراتها. وأدخلت كل قضية في هذه القوالب؛ مؤتمرات، وأمم متحدة ومجلس الأمن، وإصدار قرارات، وعقد تحالفات لتنفيذها، مثلما فعلت في الصومال والعراق وأفغانستان وسوريا واليمن وغيرها، فلربما لا تعمد إلى تنفيذها بتحالفاتها لاعتبارات معينة كمسألة فلسطين لأن أمريكا والدول الغربية لا تعمد إلى تنفيذها بتحالفاتها مباشرة لحساسية موضوع يهود لديها، ومثل قضية قبرص لوجود بريطانيا العضو الدائم بمجلس الأمن طرفا في هذه القضية، وهي المقصودة بالذات.
إن قضية قبرص لن تحل حلا جذريا إلا من زاوية العقيدة الإسلامية، فهي بلد إسلامي فتحت على عهد الخليفة الراشدي عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحكمت بالإسلام حتى جاء الصليبيون فاحتلوها، ومن ثم حررها المسلمون، فعادت تحت حكم الخلافة على عهد العثمانيين، حتى جاء الصليبيون الإنجليز فأعلنوا احتلالهم لها عام 1914، وتنازل عنها عميلهم مصطفى كمال لصالحهم بمعاهدة لوزان عام 1924، كما تنازل عن باقي البلاد الإسلامية لصالح الصليبيين المستعمرين. وقد عمل الإنجليز على جعل المسلمين يغادرون الجزيرة بأساليب خبيثة وجلب اليونانيين النصارى إليها ليصبحوا الأكثرية. فبالرغم من كل ذلك فهي بلد إسلامي يجب إعادتها إلى حكم الإسلام، وحكام تركيا يفرطون بها استجابة للأوامر الأمريكية مخالفين أوامر الله بوجوب ضمها كاملة إلى بلاد الإسلام ليسهل انضواؤها تحت الخلافة الراشدة على منهاج النبوة القائمة قريبا بإذن الله.
رأيك في الموضوع