لم يكن خيار التوجه لمغامرة الاستفتاء الشعبي في بريطانيا أوائل الصيف المقبل بالأمر المحبب لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، خصوصاً وأن هذا الاستفتاء ذو شأن مباشر بدور بريطانيا العالمي، صحيح أن بريطانيا قد انضمت في العام 1973م لعضوية السوق الأوروبية المشتركة، باستفتاء شعبي ولكن الحال في هذه الأيام تختلف تماماً، إذ تعني مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، أنها تنأى بنفسها عن كتلة أوروبية صار لها وزنها ومركزها على الحلبة الدولية. وإذا ما أضفنا تراجع دور بريطانيا المطّرد على الساحة الدولية، فإنّ خروجها من الاتحاد - في حال حصوله - يعني انكفاءها على نفسها إلى حد ما، لذلك كان لا بد من الوقوف على الدوافع التي حَدَتْ برئيس الوزراء كاميرون خوض مغامرة - إن جاز التعبير - الاستفتاء الشعبي في بلاده.
وعليه فإن المدقق في الظروف التي أملت هذا الاستفتاء يجد بالرجوع قليلاً إلى الوراء، أن الصحف البريطانية اليومية، لم تنفك منذ نشأة الاتحاد الأوروبي وعضوية بريطانيا فيه، عن مهاجمة فكرة هذا الاتحاد والتشكيك كذلك في جدوى انضمام بريطانيا إليه. لدرجة أنْ غدتْ فكرة الاتحاد الأوروبي في الشارع البريطاني، محلّ استهزاء وسخرية متواصلة. إلا أنه منذ العامَيْن الماضِيَيْن فإنّ الأحداث والأزمات التي تعصف بدول الاتحاد كتلك الأزمة الاقتصادية في اليونان، والأمواج من الهجرة القسرية إلى داخل الاتحاد وغيره، قد فتحت باباً جديداً لتلك الصحف البريطانية لتكثيف انتقاداتها بشكل لاذع من جدوى بقاء بريطانيا عضواً في هكذا اتحاد، الأمر الذي أدى إلى تنامي الرأي العام الشعبي ومنه الحزبي نحو انفصال ومغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي.
إضافة إلى مسألة تأجيج مشاعر الشعب البريطاني سلباً تجاه الوحدة الأوروبية وعضوية بريطانيا فيها، وذلك من جانب الصحف البريطانية. فقد أثّر هذا التحريض المستمر إلى تفجّر حمّى من النقاشات والجدل المحتدم بين رئيس الوزراء ديفيد كاميرون من جهة، والعديد من الشخصيات البارزة داخل حزب المحافظين نفسه، والذي يقف في مقدمتهم وعلى رأسهم عمدة لندن المحافظ، بوريس جونسون، الداعي بشدة وحماسة لخروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية.
الأمر الذي بات فيه رئيس الوزراء كاميرون في وضع حرج، دفعه للتوجه صوب أوروبا والقادة الأوروبيين ينشد العون منهم. لعلّه يجد هناك مخرجاً ينقذه هو وحكومته من المأزق الداخلي الذي تعيشه بلاده في الآونة الأخيرة. ومن هذا المنطلق كانت قمة بروكسل في بلجيكا والتي تمخض عنها وعن منطقها اتفاقٌ يغلب على الظن بأنه مبالغ فيه ومفبرك، ولكنه على أية حال يصبّ كما أرادت أوروبا وكاميرون في صالح بقاء بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي. وبغض النظر عن هذا الاتفاق في بروكسل ومن أنه جاء استجابة لرزمة الإصلاحات التي تقدمت بها بريطانيا لإصلاح الاتحاد، إلا أنّه من الواضح بأن الشعب البريطاني والداخل البريطاني هو المقصود من عقد هذا المؤتمر، حيث صرح المتحدث الرسمي باسم رئيس الوزراء كاميرون فور انتهاء قمة بروكسل بقوله: "إن رئيس الوزراء ركز دوماً من خلال هذه القمة على الفوز بأفضل صفقة للشعب البريطاني".
ومن هنا يمكننا القول: بأن قمة بروكسل لم تَعْدُ عن كونها مهرجاناً سياسياً منح بريطانيا وضعاً خاصاً على غرار الوضع الخاص الذي حظيت به بريطانيا حين أعفِيَتْ من معاهدة "ماسترخت" التي وضعت أساساً للعملة الأوروبية الموحدة، يعطي هذا الوضع الخاص فرصة مناسبة لرئيس الوزراء ديفيد كاميرون بقصد إقناع شعبه وحزبه للمضي قدماً في عضوية الاتحاد الأوروبي.
إن قادة الاتحاد الأوروبي يدركون تماماً الحالة الراهنة التي تعصف بين الحين والآخر بالاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه هم على علم واطلاع بما آل إليه الوضع في الشارع البريطاني من حيث الجدل الآخذ بالاستعار حول الوحدة الأوروبية وجدوى عضوية بريطانيا فيها. لذلك تجدهم - أي قادة الاتحاد الأوروبي - قد وقفوا مع رئيس الوزراء ديفيد كاميرون في محنته وقفة رجل واحد في بروكسل. ولا أدلّ على ذلك مما صرّح به رئيس المجلس الأوروبي "دونالد توسك" فورَ انتهاء قمة بروكسل بقوله: "توصّلنا لاتفاق يهدف إلى إبقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي حصل على تأييد بالإجماع من كل زعماء الاتحاد". وبطبيعة الحال فإنه لا يفوت هؤلاء القادة، من أنّ بريطانيا ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد بعد ألمانيا، وواحدة من الدول الأعضاء مع فرنسا من حيث القوة العسكرية والتسلّح النووي، كل هذه العوامل كانت كفيلة بأن يحظى كاميرون بالدعم المطلق من جانب قادة الاتحاد بما يعزّز فرص نجاح مساعيه الحثيثة لتجديد عقد عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في حزيران المقبل.
ومن الجدير ذكره بهذا الصدد، أن رزمة الإصلاحات في نظم الاتحاد الأوروبي التي عرضها كاميرون على القادة الأوروبيين، نَجِدُ فيها ما يتصل بالرعاية الإنسانية، وقضية مطابقة مزايا وشروط العمل في أوروبا لمزايا وشروط العمل في بريطانيا. وهذه الرزمة من الإصلاحات بطبيعة الحال قد لامست مسامع زعيم حزب العمال البريطاني، جيرمي كوربين، الذي أعلن في 23/02/2016 عن دعمه المطلق لتوجه رئيس الوزراء كاميرون بقاء بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي.
وعليه ومن خلال هذه الجولة السريعة للداخل البريطاني، يتبيّن لنا ماهيّة الدوافع والعقبات التي دفعت برئيس الوزراء ديفيد كاميرون لإجراء تنظيم الاستفتاء الشعبي في بريطانيا أوائل الصيف المقبل وبالتالي التوجه العام لديه ولدى قادة الاتحاد الأوروبي لدفع الشعب الإنجليزي نحو بقاء بريطانيا عضواً فاعلاً في الاتحاد الأوروبي.
أما بالنسبة للشعب البريطاني نفسه وعلاقته بالاستفتاء الشعبي المقرر في حزيران/يونيو المقبل، فإن الشعب البريطاني - كما هو معروف - شعب محافظ ويركن إلى كل ما هو قديم، وتاريخه أنه يثور على حكامه وبالذات الطبقة الغنية منهم، إذ هو بهذه الصفة المحافظة يشكل في كثير من الأحيان إزعاجاً محتملاً للطبقة السياسية العاملة في بريطانيا. وفي الوقت نفسه نجد بأن الحكومات المتعاقبة في بريطانيا تحسب له حساباً، وتحاول إشراكه في تقرير مصير بعض القضايا الظاهرة غير الخفية بواسطة الاستفتاء الشعبي، تحاشياً لغضبه. وبطبيعة الحال فإن الأوساط السياسية في بريطانيا تحمل في طياتها من تلك الصفات المحافظة والتي شاهدناها مؤخراً من حيث الانقسامات الحزبية حول مصير بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. فهذه مثلاً وزيرة الداخلية "تيريزا ماي"، تتصدر قائمة الوزراء الذين يؤيدون البقاء داخل الاتحاد الأوروبي، بينما يؤيد وزير العدل "مايكل غوف" المغادرة.
وعليه، ومن هذا الواقع للشعب الإنجليزي والأوساط السياسية القادمة منه، كانت الدعوة لتنظيم الاستفتاء الشعبي بوصفها الملاذ الوحيد أمام رئيس الوزراء كاميرون، للخروج بالبلاد من حالة الانقسام والجدل المحتدم هناك، ولكن مع ملاحظة الدعوات العلنية من جانب كاميرون وتوصيته الحثيثة ببقاء بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي.
وإنه من نافلة القول، تذكير الأمة الإسلامية بأن بريطانيا، الآفل نجمها، قد هدمت دولة الخلافة، وهي حتى على ضعفها الحالي لا تزال تشارك رأس الكفر أمريكا في عدائها للإسلام والأمة الإسلامية. وندعو الله سبحانه وتعالى بأن يكون يوم حسابنا لها قريباً، وذلك على يد أبناء الأمة المخلصين حين قيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
بقلم: عبد الرحمن القيسي
رأيك في الموضوع