قبيل انطلاقها الرسمي في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني (يناير) الجاري، وصل إلى جنيف وفد من المعارضة الشكلية المحسوبة على النظام السوري، والمنضوية ضمن كتلة المعارضة تحت اسم (مجلس سوريا الديمقراطية)، وحجز من فوره مقعداً في المؤتمر، وشرع بعقد الاجتماعات لترتيب أوراقه الداخلية، وللتحضير للقاء المبعوث الأممي لسوريا دي ميستورا، وتقديم شروطه له، ومن أهمها رفضه لقبول حركتي جيش الإسلام وحركة أحرار الشام ضمن وفد المعارضة المعتمد، وبهذا الصنيع الذي أقرّته عليه القوتان العُظمتان أمريكا وروسيا، استطاع أن يقطع الطريق على وفد الائتلاف الوطني، الممثل بالهيئة العليا للمفاوضات بقيادة رياض حجاب الذي طالما عمل جاهداً على استبعاده من المفاوضات.
ومجلس سوريا الديمقراطية هذا هو عبارة عن كيان جديد مكون من ثلاث قوى معروفة بتواطئها العلني مع نظام بشّار، وهي: قوات سوريا الديمقراطية المؤلفة من وحدات حماية الشعب الكردية، ومعها بعض المجموعات العشائرية العربية، وتيار قمح والذي ترمز حروفه الثلاثة إلى الشعارات (قيم، مواطنة، حقوق) بزعامة هيثم منّاع، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بزعامة صالح مسلم الذي يدعو بوضوح إلى إقامة حكم ذاتي شبه انفصالي لأكراد سوريا، ويُعتبر تشكيل هذا المجلس بمثابة قوة سياسية وعسكرية جديدة على الساحة في سوريا، لها وزنها، يصعب على الائتلاف تجاهلها، لا سيما وأنّها تحظى بدعم أمريكي وروسي وأممي.
وكانت المشاورات التنسيقية المكثّفة بين المسؤولين الأمريكان والروس في جنيف على مستوى مساعدي وزيري الخارجية قد بدأت منذ يوم الأربعاء 13/1 بين آن باترسون وجينادي غاتيلوف لوضع اللمسات التحضيرية الأخيرة لانطلاق المؤتمر، وقال جون كيربي المتحدّث باسم وزير الخارجية الأمريكي جون كيري: "إنّ الوزيرين كيري ولافروف اتفقا على البقاء على اتصال وثيق، والبحث عن فرصة للاجتماع في الأيام القادمة".
وبموجب هذه المشاورات والاجتماعات بين المسؤولين الأمريكيين والروس، سيُرسل دي ميستورا الدعوات إلى ممثلي الحكومة السورية، وإلى ممثلي المعارضة، لحضور مؤتمر جنيف 3 والذي سيبدأ أعماله في الموعد المقرر له في 25/1، ولن يتم تأجيله ولو اعترض عليه المعترضون، فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية الخميس الماضي أنّ: "أمريكا وروسيا اتفقتا على ضرورة عقد محادثات جنيف في موعدها 25/1 دون شروط مسبقة"، وقال ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية والمبعوث الروسي إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مقابلة له مع وكالة نوفوستي: "يجب أن يدرك الجميع أن جنيف3 ليس لقاء منفصلا، بل عملية تفاوض ستتطلب توفر الإرادة السياسية والصبر والوقت، وإننا نرى أن عقد مثل هذا المؤتمر يستحق دعمنا، ولذلك بدأنا الخطوات العملية للإعداد لجنيف3".
والدعوة لعقد مؤتمر جنيف3 تؤسس لمرجعية دولية ثابتة تعتمد على قرار مجلس الأمن 2254 الصادر في 18/12/2015، ووثيقة فينا، ورباعية باريس الدولية، ومجمل بنود القرار والوثيقة والرباعية تدعو إلى مكافحة الإسلام (المتطرف) ومحاربة الجهاد (الإرهاب)، ورفض حكم الشريعة، وذلك من خلال الدعوة إلى علمانية الدولة السورية وديمقراطيتها وتعدديتها، والسير قدماً في وضع دستور مدني جديد مبني على مفاهيم الحضارة الغربية، وعلى أساس فصل الدين عن السياسة، والسعي لحل الأزمة في سوريا عبر مراحل متعددة، تبدأ بمرحلة انتقالية تشترك فيها الحكومة والمعارضة في حكومة واحدة مع بقاء الرئيس بشّار الأسد في منصبه لمدة غير معلومة، وتنتهي بحل سياسي شامل غير واضح المعالم للصراع الدائر في سوريا.
تعمل أمريكا وروسيا في المؤتمر على تجاوز النقاط العالقة بين الأطراف المتحاورة، وأهمّها تسمية فصائل المعارضة المشاركة في المؤتمر، فروسيا و(مجلس سوريا الديمقراطية) تعترض على مشاركة بعض الفصائل الإسلامية، لا سيما جيش الإسلام وحركة أحرار الشام وتصفها بالإرهابية، وتعرض روسيا بالمقابل على المؤتمر ورقة من خمسة عشر اسماً وصلوا بالفعل إلى جنيف باعتبارهم من المعارضة، وعلى رأسهم صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وجهاد المقدسي الدبلوماسي السابق، وسمير العيطة القيادي في المنبر الديمقراطي، وقدري جميل عضو قيادة الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير، بالإضافة إلى إقحام مجموعة من المغمورين المسجلين ضمن المعارضة الداخلية المرخصة في دمشق، وكل هؤلاء من الموالين ضمناً لنظام بشار.
وتتوافق أمريكا مع روسيا على ضرورة دمج صالح مسلم وجماعته في المعارضة، خاصة وأنّ أمريكا هي التي دعمت قوات سوريا الديمقراطية في حربها ضد تنظيم الدولة والتي يُعتبر مسلم جزءاً رئيسياً فيها.
لذلك لا نكاد نرى أي اختلاف ولو شكلياً بين روسيا وأمريكا حول مؤتمر جنيف3، وحول تفويض دي ميستورا لإدارة الملف السوري، وللإشراف على جلسات المؤتمر، وهما معاً تُريدان إشراك إيران فيه، خاصة بعد رفع العقوبات عنها إثرَ تفكيكها لأهم عناصر مشروعها النووي.
هذه باختصار هي حقيقة مؤتمر جنيف3، وهذا هو حجم التضليل المخيف الذي تُمارسه أمريكا وروسيا فيه ضد الثورة في سوريا، وضد المسلمين فيها، فالمؤتمر ببساطة عبارة عن محاولة جديدة من محاولات إجهاض الثورة، واحتوائها، وتمييعها بُغية إخضاع أهلها للإملاءات الأمريكية، والمؤتمر يستخدم كسلاح للتدمير والقتل والحصار والتجويع من أجل فرض الاستسلام على أهل سوريا بالقوة والقهر، وحملهم على التخلي عن مشروع الإسلام العظيم، والقبول بالمشاريع المكررة المُملّة والمبتذلة التي عادة ما تطرحها قوى الكفر الاستعمارية على الشعوب الإسلامية.
فمنذ أكثر من نصف قرن، والمسلمون يسمعون نفس الشعارات، تُردّد عليهم في وسائل الإعلام صباح مساء، ومع ذلك فهم ما فتئوا يذوقون كل ألوان المعاناة، ويتجرعون كل أشكال المرارة بسبب النظام الرأسمالي الديمقراطي المفروض عليهم وما فيه من فظاعات ودموية. فكم من الجرائم الوحشية التي ارتكبت في بلاد المسلمين باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان؟! وكم من الانتهاكات اللاإنسانية التي اقترفت على يد دعاة المواطنة والنظام المدني؟! فعشرات من السنين عاشتها شعوب الأمّة الإسلامية في ظل هذا النظام الوضعي الكافر، وهي في حالة دائمة من التراجع والتقهقر والتخلف والانحطاط في جميع مجالات الحياة.
فيا أيّها الثوار في سوريا، لا تنخدعوا مرة جديدة بمؤتمرات جديدة كمؤتمر جنيف كما انخدعتم من قبل مرّات ومرّات، أو بالأصح لا تنخدعوا بمؤامرات جديدة تُحبك ضدّكم من قبل أمريكا وشركائها ليل نهار، فإنّكم إن قبلتم بجنيف3 فلن تجنوا منه سوى الخيبة والخذلان، والمذلة والهوان.
فماذا تتوقعون من رعاة المؤتمر أن يُقدّموا لكم؟ ماذا تتوقّعون من أمريكا المجرمة المتآمرة التي منحت نظام الطاغية بشّار الغطاء القانوني على مدى سنوات الثورة الخمس الماضية، ومكّنته من البقاء، وسمحت لروسيا وإيران بإمداده بكل أسباب الحياة والقوة، فجعلته يُدمّر سوريا، وينشر فيها الموت والخراب، ويُحوّلها إلى ركام، بعد أن كان على وشك السقوط؟.
وماذا تنتظرون من روسيا التي تُغير طائراتها على المدن والتجمعات السكنية، فتقصفهم بقنابل الموت وبالصواريخ الفتّاكة القاتلة، فتقتل الأبرياء من نساء وأطفال وعُزّل، وتهدم البيوت فوق ساكنيها، وتقترف كل تلك الجرائم، وهي لا تأبه لجرائمها، ولا لما تُزهقه من أرواح، فهي حقيقةً لا ترقب في المسلمين إلاً ولا ذمّة.
فإذا كانت هاتان الدولتان المجرمتان هما راعيتي المؤتمر فكيف بالله عليكم بهما تثقون؟.
وأنتم إذا نزعتم الثقة منهما - وهذا ما يرجوه كل مسلم واثق بنصر الله - فعليكم بالضرورة أن تنزعوا الثقة من توابعهما من الدول الإقليمية كالسعودية وتركيا وقطر وإيران، لأنّ هذه الدول إنّما تتبع تلك وتسير في فلكها.
أمّا إن قبلتم بمؤتمر جنيف3 - لا سمح الله - فتكونوا قد قبلتم بالطريق المفضي إلى الهلاك والخسران المبين، لأنّه امتداد لطريق يرسمه لنا أعداء الأمّة، وهو طريق شاق وطويل وكُلّه معاناة وحصار وموت زؤام، وهو واحد من سبل الشيطان المفضي إلى الذلة والهوان في الدنيا والآخرة.
فمن الخير - كل الخير - لكم، وللثوار، ولكل المسلمين، أن تُقاطعوه، وتنبذوه، وتُسقطوه، وتتمسّكوا عوضاً عنه بحبل الله ورسوله، وفقّنا الله وإيّاكم لما فيه خيرٌ لخيرِ أمّةٍ أخرجت للناس.
رأيك في الموضوع