لنتطرق أولا لحقيقة أهداف روسيا التي لم تتغير منذ نشأتها، وتتمثل بطموحها دائما في أن تكون دولة كبرى، وطمعها في البلاد الإسلامية حيث تسيطر أو تهيمن على قسم منها في القفقاس وفي آسيا الوسطى وتنهب ثرواتها، وطمعها في الوصول إلى البحار الدافئة. فإذا أتيحت لها فرصة لا تتوانى عن التحرك لتحقيق ذلك.
وعندما سقط الاتحاد السوفياتي انحسرت في إقليمها، وأتيحت لها فرصة بتشجيع فرنسا شيراك وباشتراك ألمانيا لتلعب دورا دوليا بمعارضة أمريكا لغزوها العراق عام 2003. وبعد ذلك بدأت روسيا تتشجع للتحرك الدولي ولكن بتخوف من أمريكا طالبة رضاها ومتزلفة لها حتى تشركها في المسائل الدولية.
وقد أحست باهتزاز موقف أمريكا الدولي بسبب ما تعرضت له في العراق وأفغانستان وانفجار الأزمة المالية فيها، فتشجعت لتستعيد بعضا من نفوذها باقتطاع أبخازيا وأوستيا المواليتين لها عام 2008 من جورجيا بعدما خسرت نفوذها فيها عندما دخلها النفوذ الأمريكي عام 2003، وفي عام 2014 عندما أسقط الغرب عميلها يانوكوفيتش من الحكم في أوكرانيا قامت لتحافظ على نفوذها في شرق أوكرانيا وفي القرم.
أشركتها أمريكا في محادثات السداسية المتعلقة بالبرنامج النووي لكوريا الشمالية التي بدأت عام 2003 فكانت مؤيدة للمواقف الأمريكية ضد الأخيرة، وأشركتها في مفاوضات برنامج إيران النووي لتسند موقفها في وجه أوروبا.
والآن أتيحت لها فرصة في سوريا حيث تستخدمها أمريكا للوقوف في وجه المسلمين الساعين لإزالة النفوذ الأمريكي من سوريا بإسقاط النظام فيها.
لقد أظهرت أمريكا عجزا عن حل الإشكالية في سوريا لتحافظ على نفوذها فيها، حيث كانت تمنّي الناس بأن عميلها سيجري إصلاحات في الحكم واستخدمت تركيا معها، وأطلقت يد عميلها ليبطش بالناس المنتفضين ضد نفوذها، واستخدمت الجامعة العربية وتلتها بمؤتمر جنيف1 وبمهمة كوفي عنان وبعدها مهمة الإبراهيمي وأخيرا مهمة دي ميستورا، وأدخلت إيران وحزبها لحماية النظام وضرب الثورة، وتدخلت مباشرة بذريعة محاربة الإرهاب وتنظيم الدولة، وكل ذلك فشل. فأوعزت لروسيا بالتدخل المباشر لعلها تحمي عميلها من السقوط لحين إيجاد البديل، وتجعل الأنظار تلتفت إلى روسيا وينسى أهل سوريا ما تفعله أمريكا ضدهم لعلهم يلجؤون إليها فتخضعهم لحلها السياسي!
إن روسيا لم تفكر من قبل في ذلك ولم تكن لتتجرّأ على ذلك لو لم تُغرِها أمريكا بالتدخل، وهناك أدلة كثيرة على ذلك، منها قولزعيم روسيا بوتين يوم 1/3/2012 "ليس لدينا أية علاقة خاصة مع سوريا، لدينا موقف مبدئي حول طريقة تسوية هذا النزاع من النزاعات ولا نؤيد هذا الطرف أو ذاك، لدينا مصالح اقتصادية في سوريا لكنها على الأرجح ليست بحجم مصالح بريطانيا أو أي بلد آخر في أوروبا". وعندما حصل موضوع استعمال الكيماوي من قبل المجرم بشار أسد وقامت أمريكا بالتهديد بالضرب وأرسلت بوارجها الحربية صرح وزير خارجية روسيا لافروف يوم 26/8/2013 بأن "روسيا لن تخوض في حرب ضد أحد في حال التدخل العسكري في سوريا". ونقلت وكالة إنترفاكس الروسية يوم 28/8/2013 عن مصدر في هيئة الأركان العامة الروسية قوله: "إن القوات المسلحة الروسية ليست مكلفة بالحيلولة دون وقوع نزاع مسلح أو التدخل في الأحداث حول سوريا، وإن هيئة الأركان تتابع الأوضاع من أجل الحصول على أكبر حجم من المعلومات التي ستستخدم في خدمة مصالح الأمن القومي الروسي. هذا وضع طبيعي بالنسبة إلينا وإن الأزمان التي كنا نحارب فيها في سبيل أحد قد مضت. ونحن ننوي الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات لخدمة مصالح الأمن القومي الروسي وتحليل تكتيكات المشاركين في النزاع المحتمل بدقة واستخلاص النتائج للمستقبل". "وإن ورشة العمل العائمة التابعة لأسطول البحر الأسود التي تنفذ المهام المنوطة بها في ميناء طرطوس السوري سيتم سحبها ووضعها تحت حماية السفن المتواجدة في المتوسط في حال تفاقم الوضع". فمن هنا يتبين أن روسيا لم ترَ أن لها مصالح تذكر في سوريا لتضحي من أجلها وأنها غير مستعدة للتضحية من أجل حماية أي أحد وليست مستعدة للتدخل ومواجهة أمريكا في منطقة نفوذها.
وها هي السنة الخامسة على وشك أن تنقضي من عمر الثورة السورية المباركة وهي ما زالت مستمرة وتحقق النجاحات وأمريكا تبوء بالفشل، فأعلنت على لسان الناطق الرسمي للبيت الأبيض جوش إيرنست يوم 17/9/2015 "استعدادها إجراء مناقشات تكتيكية وعملية مع روسيا بهدف دعم أهداف التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية وضمان التنفيذ الآمن لعمليات التحالف". وجاء اجتماع الرئيس الأمريكي أوباما مع نظيره الروسي بوتين على هامش اجتماعات الأمم المتحدة يوم 29/9/2015 لتبدأ بعدها بيوم الطائرات الروسية بشن الهجمات في سوريا. فكان هذا الاجتماع للاتفاق على أمور معينة تخدم مصالح أمريكا حتى تعطي الإذن الرسمي لروسيا بالتدخل في منطقة نفوذها. وقد نقلت رويترز يوم 30/9/2015 عن مسؤول أمريكي كبير قوله "إن موسكو أخطرت واشنطن مسبقا بغارتها في سوريا". وأعلنت موسكو أنها "تنسق مع واشنطن بشأن الضربات الجوية عبر مركز الاستخبارات المشترك". وقد أعلن وزير خارجية أمريكا كيري يوم 6/10/2015 "ترحيب بلاده بالضربات الروسية إذا كانت تستهدف تنظيم الدولة الإسلامية". وكل ذلك يدل على أن التدخل الروسي في سوريا كان بالتنسيق مع أمريكا.
إن أمريكا وروسيا لهما هدف مشترك في سوريا وفي المنطقة، أعلنتا عنه في لقاء وزيري خارجيتهما يوم 1/10/2015 حيث صرحا: "فنحن جميعا نرغب في إيجاد سوريا ديمقراطية علمانية موحدة". وقد أعلن لافروف يوم 29/1/2014 عن "ضرورة التصدي للثورة السورية معبرا عنها بالإرهاب لأنها تهدف إلى إقامة الخلافة في المنطقة كلها وليس في سوريا وحدها"، وكذلك أعلن الرئيس الأمريكي يوم 8/8/2014 بأن "بلاده لن تسمح بإقامة الخلافة في سوريا والعراق". فهدفهما المشترك هو المحافظة على نظام الكفر ومنع عودة نظام الإسلام إلى الحكم.
والخلاصة أن روسيا ما تحركت في سوريا إلا بالتنسيق مع أمريكا كما أثبتنا ذلك بالأدلة، بل بإيعاز من أمريكا التي فشلت في إخضاع الشعب السوري الأبي لمخطاطاتها بالقبول بمقررات جنيف ومبادرات عملائها الذين ينتحلون صفة المبعوث الأممي أو العربي للحفاظ على نفوذها في سوريا ببقاء النظام، وروسيا تعلن أنه ليس لها نفوذ في سوريا، وليست لها مصالح كبيرة فيها تستأهل التضحية، وتدرك أن أمريكا هي صاحبة النفوذ فيها، ولا يمكن أن تتدخل إلا بإذنها، فهي غير مستعدة لخوض حرب في منطقة النفوذ الأمريكي، وهي كانت تتخوف من ذلك على عهد الاتحاد السوفياتي الذي كان عملاقا يتحدى أمريكا، فكيف بها وقد أصابها من الضعف ما أصابها، ويكفي دليلا توسلها لأمريكا والغرب ليرفعوا عنها العقوبات المفروضة عليها، فقد صرح رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف يوم 21/4/2015 "إن الخسائر الناجمة عن القيود المفروضة كبيرة، تكبدت روسيا خسائر بمبلغ 25 مليار يورو، بما يمثل 1،5% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد تزيد الخسائر عدة مرات عام 2015". فهل هذه دولة قادرة على أن تتحدى أمريكا في منطقة نفوذها وتخوض حربا ضدها؟! ولكنها تعتبر سماح أمريكا لها بالتدخل فرصة، لعلها تقتنص بعض المغانم لحاجة أمريكا لها في الوقوف ضد ثورة الأمة الإسلامية، وهي تطمع في غزو البلاد الإسلامية كلها لو استطاعت، وتطمع في أن يشركها الغرب في نهب ثرواتها، حيث إنها تنهب ثروات جزء منها في القوقاز وفي آسيا الوسطى، وتطمع أن يكون لها وجود على شواطئ المتوسط، وتطمح أن يكون لها دور عالمي بجانب أمريكا لتعزز موقفها الدولي ولتثبت أنها دولة كبرى ثانية، وهي تشترك مع أمريكا والغرب في ضرب الإسلام وأهله ومنع وصوله إلى الحكم، وتراه يهددها في عقر دارها، فتريد استتباب نظام الكفر متمثلا بالديمقراطية والعلمانية.
ومع ذلك فإن ثورة الشام المباركة كما أفشلت أمريكا فإنها ستفشل روسيا بعون الله، وستهزمهما الاثنتين معا بإذن الله، كما هزمت من كان على دأبهما من صليبيين ومغول في حطين وعين جالوت بأرض الشام.
رأيك في الموضوع