وقد قسمالعلماء الذين قالوا بتعليل الأحكام بالمصالح،إلى ثلاثة أقسام:
- المصالح المعتبرة:هي التي شهد لها الشرع بالاعتبار بدليل نص عليها، مثل حكم تحريم الخمر، حيث ذكر النص التحريم دونذكر سببه أي علته، وقد التمس العقل له علة وسببا للتحريم وهوالإسكار باعتباره مفسدة ومنعه مصلحة.
- المصالح الملغاة: هي التي شهد الشرع ببطلانها، مع أن العقل يرى أنها مصلحة، كنص فتوى أحد العلماء لأحد السلاطين وقد واقع في شهر رمضان بأن يصوم شهرين متتابعين عوض تحرير رقبة، لأن عتق العبيد أسهل على السلطان من الصيام فلا يزجره فكانت الفتوى تأمره بالصيام. فهذا الحكم ملغى بالاتفاق لكونه يناقض النص الصريح.
- المصالح المرسلة: هي ما لم يشهد لها الشرع لا بالاعتبار ولا بالبطلان فهي مصالح مرسلة من الدليل. وإنما تعتبر مصلحة بناء على نظر العقل بأنها تجلب مصلحة أونفعا أوتدفع ضررا أوتدرأ فسادا، وبحرفية هذا التعريف فهومردود بالاتفاق ولم يقل به أحد من العلماء السابقين. والذين أجازوا إعمال المرسل لم يقصدوا أنه ليس معتبرا بإطلاق. وإنما قصدوا أنه لم يشهد له حكم بعينه (كما هوالحال في تحريم الخمر) ولكن شهد له حكم بجنسه. أوشهدت أحكام لجنسه، فالمرسل عند القائلين به هومن قبيل المعتبر الذي لم يشهد له أي لعينه حكم معين.
قال فخر الدين الرازي في المحصول (وهومن القائلين بالمصالح المرسلة) "المناسب الذي لا يلائم ولا يشهد له أصل معين فهذا مردود بالإجماع. ومثاله حرمان القاتل من الميراث معارضة له بنقيض قصده لوقدّرنا أنه لم يرد فيه نص".فالمعاملة بنقيض المقصود وصف مناسب عقلا وعلى فرض عدم وجود نص «القاتل لا يرث» يكون هذا المعنى المناسب مردود بالإجماع، وهذا يؤكد أن القائلين بالمصالح المرسلة لا يقصدون المرسلة بإطلاق من غير وجود أصل أوحكم يشهد لها.
وعلى ذلك فالمرسل عند من يأخذ به هوأحد أقسام المعتبر. إذ المعتبر قد يكون شهد له حكم معروف، كوصف الإسكار شهد له حكم محدد وهوتحريم الخمر (المناسب المعتبر)، وقد يكون لم يشهد له حكم معين وإنما شهد حكم أوأحكام لجنسه كما في المثال الذي أورده الرازي في كتابه المحصول: "مثال تأثير الجنس في الجنس تعليل الأحكام بالحكم التي لا يشهد لها أصول معينة مثل أن عليا رضي الله عنه أقام الشرب مقام القذف إقامة لمظنة الشيء مقامه، قياسا على إقامة الخلوة بالمرأة مقام وطئها في الحرمة" فقد قرأ الرازي في حكم إقامة الخلوة مقام الوطء معنى عامًا وهوإقامة مظنة الشيء. وهنا توجد عملية تعميم أوتجنيس لوصفٍ ما بغير دليل على التعميم. والافتقار إلى التعميم هوسبب تسمية المناسب بأنه مرسل. ولهذا قيل إن المصالح المرسلة يجب أن تكون ملائمة لمقاصد الشريعة. ومقاصد الشريعة هي هذه الأوصاف المناسبة المعتبرة التي شهدت لها أحكام كثيرة تفوق الحصر، فمثلا حفظ العقل لم يشهد له حكم معين، ولكن شهد حكم لوصف الإسكار. وشهدت أحكام للتفكير والتدبير حيث مُدح المتفكرون والمتدبرون وذُمَّ الذين لا يفقهون ولا يعقلون ورُفع التكليف عن الصبي والمجنون وغيرها ما يوجد فيها مجتمعة حفظ العقل. ولذلك يقال إن حفظ العقل من مقاصد الشريعة وإن لم يوجد حكم معين يشهد لذلك أونص وكذلك يقال في سائر المقاصد. وبناء على ذلك فلا يوجد في الشريعة قول: إن المصلحة دليل على الحكم الشرعي، وكذلك ليس المراد بالمصالح المرسلة الاستدلال على تحريم الفعل أوجوازه لمجرد اشتماله على مفسدة أومصلحة.
وإذا كان الأمر هكذا في المصالح المرسلة وهي ما لم ينقضها نص ولم يشهد لإلغائها حكم. فأين تقع هذه الآراء التي تتناقض مع ما هومعلوم من الدين بالضرورة وأجمع عليه الصحابة والعلماء كجواز التعامل بالربا والعمل في المؤسسات الربوية والمشاركة في حكم الكفر، إنها لا شك تندرج تحت المصالح الملغاة، ومن يقول بها فهوضال على حد وصف العز بن عبد السلام وغيره.
وأنا في هذا المقام أتمنى من الشيخ راشد الغنوشي أن يراجع نفسه ويرجع إلى إحسان الفهم. فالله كتب الإحسان في كل شيء، ويحب الإحسان في كل شيء، ويحب المحسنين. والعالم ينال أجر علمه إن كان صحيحا، وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، وكذلك ينال وزر علمه إن كان سيئا، ووزر من استدل بعلمه إلى يوم القيامة. وفي هذا المقام لا يقال إن للمصيب أجرين وللمخطىء أجرا واحدا، بل إن المصيب في الحكم إن كانت مصادره وأصوله وقواعده شرعية فله أجران، وإن أخطأ فله أجر. أما من كانت مصادره وأصوله وقواعده غير شرعية فلا أجر له بل عليه الوزر سواء أصاب أم أخطأ.
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا﴾ [سورة الأحزاب: 36]
بقلم: د. الأسعد بن حسين
رأيك في الموضوع