سوف أستعرض في هذا البحث ثلاث كلمات هي: الخلافة، والأمة، والتغيير.
أما الخلافة فهي ليست مجرد كلمة تستدعى من التاريخ لتأتي بصحبة الناقة والجمل والسيف لتعيد الناس إلى الوراء كما يشيع ذلك بعض الحاقدين على الإسلام وأحكامه، فالخلافة ليست في حالة مفاصلة مع أشكال المدنية الحديثة، بل هي دولة العلم، التي لها نصيب وافر من كل أشكال المدنية الحديثة، وأساليبها، لأن العلم هو تراكمي.
والخلافة ليست خيالا يداعب الأحلام بل هي دولة كانت ملء السمع والبصر، لمدة ثلاثة عشر قرنا، وكانت لمدة ستة قرون هي الدولة الأولى بلا منازع.
وعندما يدخل علينا شهر رجب هذا العام يكون دافعا، ومحركا لنا، لاستنهاض همم المسلمين، ذلك أنه في رجب 1342هـ - 1924م، قام خونة العرب والترك، يحركهم حقد بريطانيا الماكرة، بهدم الخلافة، وأبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ دويلات وطنية عاجزة أورثت المسلمين ضعفا وذلا وفقرا، وأقصوا الإسلام عن حياتهم، ومزقوا وحدتهم، ونصبوا عليهم حكاما عملاء، ساموهم خسف العذاب، ومكنوا الغرب من نهب ثرواتنا، ويحولون بيننا وبين العودة لأصلنا، ومن ذلك أنه يظللنا الآن شهر رجب الفرد، وبه تكون الأمة الإسلامية قد عاشت 104 سنوات عجافا منذ هدم الخلافة، يدخل شهر رجب هذا العام متزامنا مع شهر كانون الثاني/يناير والاحتفالات بمرور 69 سنة على استقلال السودان المزعوم، ليرسم هذا التزامن خطا فاصلا بين الحق وأحكامه؛ أي بين الخلافة والإسلام وبين الباطل وإفكه؛ أي الديمقراطية وفصل الدين عن الحياة.
وحتى تتضح الصورة أستدعي مشهدا من التاريخ القريب يبين مكانة الخلافة وعظمتها. ففي سنة 1924م وفي جلسة عاصفة بمجلس العموم البريطاني يحتج النواب وتصعد المعارضة تتهم الحكومة وهي تتساءل كيف تعترف بريطانيا باستقلال تركيا؟ فأجابهم وزير خارجيتهم جورج ناثانيال كرزون قائلا: "لقد قضينا على تركيا التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم، لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين؛ الإسلام والخلافة".
وجورج كرزون وزير خارجية بريطانيا هو الذي فرض في مؤتمر لوزان في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1922 أربعة شروط لاستقلال تركيا هي:
- إلغاء الخلافة.
- طرد الخليفة.
- مصادرة أموال الخليفة.
- إعلان علمانية الدولة.
ثلاثة شروط منها تتعلق بالخلافة، والشرط الرابع يستهدف الإسلام بوصفه نظاما للحياة. فكان أن تجرعت الخلافة هذا السم الزعاف، لينتهي الحال بتركيا، التي كانت لمدة 300 سنة الدولة الأولى في العالم بلا منازع، تأمر وتنهى وهي مطاعة، ينتهي بها الحال إلى تركيا العلمانية، تخدم مشاريع الغرب في بلادنا، رجاءة أن ترضى عنها الدولة الأولى؛ أمريكا!
هذه هي حقيقة الخلافة بوصفها نظام الحكم في الإسلام، والطريقة الشرعية لتطبيق أنظمته في الحياة، فالخلافة هي التي تجعل أحكام الإسلام وأنظمته حية في حياة الناس. لذلك جعلها الكافر الحاقد كرزون صنوا للإسلام وهي وإن كانت حكماً من أحكامه، إلا أنها الطريقة الشرعية التي تجسد الإسلام في حياة المسلمين فيصبح حيا في تفاصيل حياتهم.
أما الأمة فهي تعني لغوياً: (الجماعة من الناس التي تؤم جهة معينة). وأما المعنى الاصطلاحي والشرعي: فقد دل القرآن والحديث النبوي على معانٍ عديدة أهمها: أن الأمة هي مجموعة من الناس يحملون رسالة واحدة، أي يعتنقون عقيدة واحدة، وبهذا المعنى وبعيدا عن التضليل فإنه لا توجد أمم على أساس الوطن أو الجهة أو العرق أو القبيلة، بل الأمة تكون على أساس مبدأ أو عقيدة، ولذلك كانت الأمة المقصودة في هذا البحث هي الأمة الإسلامية والتي هي خير أمة أخرجت للناس، تعتنق عقيدة الإسلام وتحيا بها وتحملها للناس لتخرجهم من الظلمات إلى النور، وهي بهذا الوصف وإن تكالب عليها شياطين الإنس والجن فهي أمة حية، الحيوية تدب فيها بوصفها أمة واحدة، فتتخطى حيويتها الحدود والسدود والسجون والسجانين، لذلك عندما قامت ثورات الربيع العربي اندلعت كالنار في الهشيم تتخطى حدود سايكس بيكو لتجسد نظرية الدومينو وتكشف عن حقيقة الأمة الواحدة المجزأة في سجون الظالمين، انطلقت الشرارة الأولى في تونس في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، فهرب رئيسها، ثم وصلت مصر في 25 كانون الثاني/يناير 2011، وانتهت بتنحي رئيسها، ثم وصلت اليمن في 11 شباط/فبراير 2011 فتنحى رئيسها. وامتدت إلى البحرين في 13 شباط/فبراير 2011، واحتج الناس مطالبين بتحسين أوضاعهم، وانتقلت في الوقت ذاته إلى ليبيا، واشتعلت شرارتها الأولى في 17 شباط/فبراير 2011 وانتهت بمقتل معمر القذافي، ثم انتقلت الشرارة إلى سوريا في 15 آذار/مارس 2011 فكانت ثورتها مختلفة لأنها جعلت من تطبيق الإسلام مطلبا لها فرماها الكفر عن قوس واحدة فكانت كلفتها باهظة وما زال مخاضها مستمرا.
لقد أثبتت هذه الثورات حقيقة تطلع الأمة للتغيير، لكن عدم اكتمال الوعي على المشروع الذي يحقق التغيير بوصفه مغايرا للواقع، ومن حيث قدرته على كسر أغلال الواقع وتحقيق الانعتاق الكامل، وذلك لا يتحقق لأي مشروع إلا بالإجابة العميقة المستنيرة عن الآتي:
من نحن الثائرون؟ فإن كانت الإجابة أننا نحن مواطني دويلات سايكس بيكو، التي تفصل الدين عن الحياة، وتشرع أنظمتها من بنات أفكارها، والحسم في الحق والباطل هو الأغلبية، فإن خيارنا عندها سوف يكون داخل صندوق عقيدة فصل الدين عن الحياة، لذلك سوف نسعى لاستبدال الديمقراطية بالديكتاتورية، أو الديمقراطية بالثيوقراطية، وسيكون حالنا هو الواقع الذي نحياه الآن.
أما إذا أجبنا بأننا مسلمون، وأن إسلامنا هو عقيدة ينبثق عنها نظام أي دين ومنه الدولة، فإننا عندها نكون قد خرجنا من صندوق الواقع الفاسد وأبطلنا سحر الغرب الكافر وكيده وتضليله، عندها فإننا نسعى للمشروع الذي يعبر عنا ونرضي الله سبحانه وتعالى.
أما النقطة الثانية فهي تشخيص طبيعة المرض الذي يستلزم مشروعا للتغيير ومتى بدأ هذا المرض؟
أما طبيعة المرض فهي أننا ما زلنا تحت سيطرة الكافر المستعمر، خزان الشرور وسبب العبودية والتعاسة. وأما تاريخ المرض فقد بدأ بهدم الخلافة في 28 رجب 1342هـ.
وعلاج هذا المرض؛ أي الاستعمار، يكون بالتحرر، ولا تحرر إلا بعقيدة وأنظمة حياة تغاير ما جاء به المستعمر وطبقه في بلادنا. وذلك يعيدنا إلى الإسلام والخلافة.
لذلك كانت أية دعوة للمطالبة بأي جزئية من البناء الحضاري للغرب الكافر، هي دعوة جاهل أو خائن، تضلل الناس بثورات مزعومة وتركز الأوضاع البائسة والتعيسة، بل وتعيد إنتاجها بنسخ أشد بأسا وتنكيلا تشيع الإحباط وتئد الأمل.
ومن ذلك فإن كل مشروع تغيير يطالب بالديمقراطية أو العلمانية أو المدنية، أو غيرها من صور الحكم التي أنتجتها الحضارة الغربية رأس الداء وأس البلاء، كل ذلك إنما هو تركيز للعبودية للغرب المستعمر.
لذلك فإن مشروع التغيير الذي يكون مغايرا للواقع الفاسد ويجيب على كل الأسئلة في هذه الحياة الدنيا بل وما قبلها وبعدها، والذي يحوي أنظمة تعالج كل تفاصيل الحياة في الماضي والحاضر والمستقبل، والذي يعطي حلولا للمشكلات متسقة مع بعضها لا تنتج آثارا جانبية، ولا ينضب معينه ويظل يعطي الأحكام والمعالجات والأنظمة بالرغم من تجدد الوقائع والأحداث والأقضية بثراء تشريعي لا نظير له، إنما هو الإسلام.
لذلك كان المشروع الذي يجب أن تحمله الأمة بوصفها طليعة التغيير ليس لنفسها بل للعالم إنما هو مشروع الخلافة بوصفها الطريقة الشرعية لتطبيق أحكام الإسلام وأنظمته، ولاقتلاع نفوذ الغرب الكافر وأنظمته وحضارته وطريقة عيشه من بلادنا ثم من أرجاء المعمورة. ولمثل هذا فليعمل العاملون ففي ذلك خير الدنيا والآخرة.
* عضو مجلس حزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع