إن الحكم الشرعي في مسألة تحديد مدة بقاء الخليفة في الحكم قد جاءت الأدلة الشرعية تدلل على أن الحاكم في الإسلام لا تحدد مدة حكمه بمدة معينة بل إن تحديدها بمدة معينة مخالف لواقع الحكم في الإسلام، ولمفهوم الأحاديث، يأثم من يسنها ومن يعمل بها ومن يسكت عليها ودليل ذلك أنه عندما سئل النبي r عن الحكام الظلمة: أننابذهم بالسيف؟ قال «لا ما أقاموا فيكم الصلاة» ومفهوم هذا الحديث يدل على أن الحاكم لا تحدد مدة حكمه بزمن معين بل هو الحاكم ما دام يقيم شرع الله تعالى، وما دام قادرًا على القيام بمسؤولياته ولم يفقد أي شرط من شروط صحة كونه خليفة.
ففي صحيح الإمام البخاري كتاب الأحكام باب الأمراء من قريش: عن الزهري قال كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث... عن معاوية: سمعت رسول الله r يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين. وقد روى مسلم في كتاب الإمارة عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ سَمِعْتُ جَدَّتِي تُحَدِّثُ أَنَّهَا سَمِعَتْ النَّبِيَّ r يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقُولُ «وَلَوْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا»وفي رواية ابن ماجه: «ما قادكم بكتاب الله» وفي رواية للترمذي «ما أقام لكم كتاب الله ».
وما في قوله: ما أقاموا مصدرية، أي المصدر: بإقامتهم، وما تأتي مصدرية ظرفية، وهي التي تسبق الفعل الناقص (دام)، وسميت (ما) هذه مصدرية؛ لأنها تقدر بالمصدر وهو الدوام، وظرفية؛ لأنها تقدر بالظرف وهو المدة، وهي تفيد الاستمرارية، كقوله تعالى: ﴿وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا﴾، أي مدة استمرار بقائي حيا، شأنها كشأن أفعال الاستمرار: ما زال، ما يزال، وما برح، وما يبرح، وما دام، وتكون (ما) هي النكرة التي بمعنى (وقت)؛ ومن هنا جاءتها الظرفية، وسميت ظرفية لنيابتها عن ظرف الزمان وهو المدة فهي ظرفية زمانية، ومعناها: مدة إقامتهم الصلاة فيكم، كقول ربنا عز وجل: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ [البقرة: 25]، فإما أن يكون الأصل (كُلُّ رزق) ثم عُبِّر عن معنى المصدر ب (ما والفعل) ثم جاء الإنباءُ عن الزمان، أي: كلَّ وقتٍ رزقٌ، وهنا في الحديث جاءت ما وبعدها الفعل أقاموا، أي كل وقت أي ظرف زماني يحكمون فيه بشرع الله ويقيمونه لا يخرج عليهم ولا تنقض بيعتهم، ويسمع لهم ويطاعون.
"وضابط التفريق بين (ما) المصدرية الظرفية وغير الظرفية، هو أن المصدر المؤول من (ما) وصلتها إذا صلح أن تضاف إليه كلمة (مدة) مع استقامة المعنى فهي الظرفية، وإن لم يستقم المعنى بإضافة (مدة) فهي المصدرية غير الظرفية"
وعليه فالحديث حرم نقض البيعة طالما حكم الحاكم بشرع الله، وقرينة التحريم أتت من أحاديث كثيرة في ذات الموضوع مثل: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَمِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».
وموضوع الحديث تناول مثالب فيها مظنة الخروج على الحاكم، أو خلعه، أو نقض بيعته، أو منازعته الأمر من عسر ومكره، وأثرة، ومع ذلك لم يعالج هذه المثالب بنقض البيعة بل بالصبر عليها، وبمنع منازعة الحاكم الأمر، ولم يستثن إلا حالة الكفر البواح. وكذلك فالحديث يتناول الظرف الزماني، فلم يحدده بحد، وربط استمراريته بشيء واحد وهو الحكم بالشرع وإقامة الدين. "وما المصدرية قريبة في المعنى من "ما" الشرطية"، وما الشرطية جازمة، هي التي تجزم مفعولين، نحو: وما تفعلوا من خير تجدوه عند الله، فهي قريبة من معنى الشرط أي بشرط إقامتهم الدين.
فخطاب الشارع في هذه الأحاديث بمنع الخروج على الحكام إلا في حالة إظهار الكفر، وبوجوب طاعتهم إلا أن يأمروا بمعصية، وبمنع نقض بيعتهم ما داموا مستوفين شروطها، وأمر بعدم منازعتهم على الأمر ما أقاموا الدين، وهو من دلالة المفهوم، ومفهوم عدم المنازعة أن لا يختار عليهم غيرهم، ولا تنقض بيعتهم، ولا تحدد بمدة طالما أقاموا الدين، وهو أقوى دلالة على انتفاء تحديد المدة بزمن معين.
قال ابن حجر في الفتح في «ما أقاموا الدين»: "أي مدة إقامتهم أمور الدين، قيل يحتمل أن يكون مفهومه فإذا لم يقيموه لا يسمع لهم، وقيل يحتمل أن لا يقام عليهم وإن كان لا يجوز إبقاؤهم على ذلك، ذكرهما ابن التين". وعندئذ يرجح المفضول عليهم، إذا أقام الدين وقاد الأمة بكتاب الله". [في شرح البخاري: حديث 3309].
فدوام البيعة فرض ما أقام الحاكم الدين، وبالتالي فنقض البيعة من دون الإخلال بشرطها حرام وهذا يعني أن تحديد البيعة بمدة حرام، ولا يقال بأنه يجوز اشتراط المدة حال المعاقدة، لأن كل شرط خالف شرع الله فهو باطل ولو كان مائة شرط، لقول رسول الله r: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» أخرجه الترمذي. ولقول الرسولr: «مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» أخرجه البخاري. ومعنى ليس في كتاب الله أن يكون على خلاف ما في كتاب الله، أي ليست في حكمه، ولا على موجب قضائه؛ ووجه المخالفة لما في السنة في اشتراط المدة هنا واضح.
وجاء في حديث عبادة بن الصامت «... وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحاً».
ومن مقتضيات عدم المنازعة دوام الحكم وعدم تحديده بمدة معينة، فإن مفهوم: وأن لا تنازعوا يدخل فيه الخروج على الحاكم بالسيف، كما ويدخل فيه خلع الحاكم بالسلم أيضا، ويدخل فيه نقض البيعة له والبيعة لم يرد في صيغها الواردة في الحديث ما يحددها بمدة زمنية: روى البخاري عن جنادة بن أبي أمية قال دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله، حدث بحديث ينفعك الله به، سمعته من النبي r، قال: «دعانا النبي r فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان».
والبيعة عقد والوفاء بالعقد واجب من الطرفين العاقد والمعقود له، من هنا فالأحاديث تدل بدلالة المفهوم على عدم تحديد مدة زمنية طالما يحكم الحاكم بالدين.
رأيك في الموضوع