بأبي أنت وأمي يا رسول الله، نصحت لله حياً وميتاً، رغبت بما عند الله وحذرت من مخالفة أمره، بلغت الرسالة وأديت الأمانة، نصحت للأمة وكشفت الغمة، وتركتنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، حذرتتا من اتباع سَنن الكافرين فنهلك في الدنيا والآخرة.
نشهد شهادة أمام الله أن أصحابك وتلاميذك حافظوا على العهد من بعدك فحملوا الرسالة وساروا على هداك وترسموا خطاك، ففتحوا العالم ونشروا الخير والعدل والأمان، وها نحن في الشام أصبحنا جزءاً من أمتك وإننا والله نعتز بذلك، ألم تقل إن الشام عقر دار الإسلام؟
نعم لقد باتت الشام بلادا إسلامية وقد تحققت بشاراتك على أيدي الخلفاء وجيوش المسلمين، فقد فتحوا بلاد كسرى وهرقل وفتحت القسطنطينية والأندلس، وسار الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله أو الذئب على غنمه، وفاض المال في بلاد المسلمين حتى لم يجدوا من يأخذه، وعم الخير والعدل والأمان فدخل الناس في دين الله أفواجاً.
كل ذلك لم يكن ليحصل لولا وجود الدولة الإسلامية التي أسستها بيديك الشريفتين في المدينة، وبقيت تعمل لها ثلاثة عشر عاماً وعانيتَ ما عانيت من الأذى والتعذيب في سبيل إقامتها، فلا زلنا نقرأ ونقرئ نساءنا وأطفالنا كيف ردك أهل الطائف وأدموا قدميك الشريفتين كل ذلك في سبيل الله، ولأجلنا نحن.
ولا زلنا نقرأ الحوار الذي جرى بينك وبين القبائل التي طُفت عليها لطلب النصرة، حتى هيأ الله لك الأنصار الذين نحب سيرتهم ونسمي أبناءنا على أسمائهم علهم يكونوا ممن ينصرون دعوتك من جديد ويعيدون للإسلام عزه ومجده.
لقد سار صحابتك الذين أثنيت عليهم، ساروا على نهجك فلم يغيروا ولم يبدلوا، وبقي الخير في أمتك فلم يخلُ عهد إلا وبايعوا فيه إماماً يقودهم بكتاب الله وسنتك كما أوصيتنا، وقلت لنا إننا سنرى اختلافاً كثيراً من بعدك وأمرتنا أن نتمسك بسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدك ونعض عليها بالنواجذ، وهكذا فعلنا في بداية الأمر.
وقد أدرك الكفار أن أمة محمد e أمة لا تُهزم ما دامت تسير على المحجة البيضاء وما دامت تتمسك بالنور الذي جئتنا به صلى الله عليك وسلم، وما دام لها دولة وسلطان يحمي بيضة الإسلام ولها إمام يذود عن حياض المسلمين وتقاتل الناس من ورائه وتتقي به.
فما كان من الكفار إلا أن غزوا بلاد المسلمين بجيوشهم الجرارة يريدون هدم هذه الدولة ويريدون جعلنا تحت حكمهم بالقوة، لكنهم لم يفلحوا وكانت هذه البلاد التي فتحها الصحابة الكرام مقبرة للغزاة المعتدين، فقد سطرت أمة الإسلام أروع الملاحم وظلت تتمسك بعقيدتها وتحافظ على الدولة التي أقمتها لنا يا رسول الله وتدافع عنها وهي تصرخ الله أكبر.
الله أكبر في التشريع وفي الحكم وفي السياسة، أكبر من كل شيء وفي كل شيء. نعم فكلمة الله تعلو ولا يعلى عليها.. الله أكبر منهاج حياة متكامل.
لكن الكفار عرفوا أن سر قوتنا هو أننا نسير على خطاك ونهتدي بهديك في كل صغيرة وكبيرة، كيف لا وأنت من أمرتنا بالتمسك بحبل الله وحذرتنا وأنذرتنا من التخلي عن إسلامنا وعقيدتتا واتباع سنن من قبلنا؟ فما كان من الكفار إلا أن غزوا هذه المفاهيم الإسلامية بعد أن غزونا فكرياً وزعزعوا أفكار الإسلام وأحكامه في نفوسنا وأبعدونا عن نهجك وطريقتك وشوهوها في أذهاننا.
عندها أظلمت الدنيا في وجهنا يا رسول الله لأننا لم نستمع لنُصحك وفي غفلة منا زغنا عن المحجة البيضاء التي كانت ترشدنا، وابتعدنا عن النور الذي جئتنا به فلم نعد نبصر طريقنا، حتى كان ذلك اليوم العصيب الذي دخلنا فيه جحر الضب فاقتادونا إليه لأننا لم نعد نرى بنور الإسلام!! ومنذ ذلك الوقت ونحن نخرج من جحر لندخل في جحر آخر أشد ظلاما من الذي سبقه، نتبع سنن الكافرين حذو القذة بالقذة!!
فبعد أن أسقطوا دولتنا صرنا كالأيتام على موائد اللئام، بعد أن سجنوا الربان وتركوا السفينة في عرض البحر تتقاذفها الرياح والأمواج. وقالوا لنا إن دولتكم لن تعود أبداً فما عليكم سوى أن تكونوا تحت حكمنا، فلم نقبل في بداية الأمر، لكننا سرعان ما قبلنا وسكتنا ورضينا!! أولسنا في جحر الضب؟!
ويا ليتنا لم نرض! يا ليتنا استمعنا لنصحك حيث أمرتنا أن نموت في طاعة الله خير من أن نعيش في معصيته.
وبعد أن رضينا وتابعنا لم يكتفوا بإسقاط خلافتنا بل زادوا على ذلك، فما كان منهم إلا أن قسموا بلادنا ونهبوا خيراتنا وجعلوا لنا كيانات هزيلة وقالوا لنا هذه أوطانكم، وصرنا ندافع عنها لا لشيء سوى أنهم قالوا لنا هذه أوطانكم!!
ونصبوا علينا حكاما يساعدونهم في قتلنا فصفقنا لهم في البداية لا لشيء سوى أنهم قالوا لنا هؤلاء ولاة أموركم وأنتم مقبلون على الاستقلال ففرحنا بذلك واحتفلنا!!
ووضعوا لنا دساتير وأعلاماً ما أنزل الله بها من سلطان وقالوا لنا هذه أعلامكم ودساتيركم فصرنا نرفع الأعلام ونعتز بها، لا لشيء سوى أنهم قالوا لنا هذه أعلامكم!!ونساعد في تغيير بعض القوانين في الدساتير!!
ولم يكتفوا بذلك فقد استمروا بحربنا وغيبوا الإسلام عن الحياة وقالوا إن السياسة ليست من الدين في شيء، فصرنا نردد دون وعي أن السياسة تياسة... ولا سياسة في الدين... لا لشيء إلا لأنهم قالوا هكذا!!
لكننا وبعد الظلم والقهر والعذاب الذي عم العالم أجمع، أدركنا الواقع المرير وأدركنا الخطأ الذي ارتكبناه في سكوتنا فقررنا أن نرجع عنه فالرجوع عن الخطأ فضيلة، فها نحن نعود يا رسول الله. وكان عزاؤنا أنك بشّرت بخلافة على منهاج النبوة وبشرت بفتح روما فقررنا العمل من جديد لنطوي ما مضى من صفحات سوداء في تاريخ الأمة ونبدأ عهداً راشداً يشفي صدور قوم مؤمنين.
لكنهم أمروا حكامنا بقتلنا بالسلاح الذي جمعناه لأجل تحرير بلادنا المحتلة، وشردونا من بلادنا بفضل سياساتهم الملعونة، وها نحن نموت على الحدود التي رسموها لنا، وها هي جيوش المسلمين تقتلنا وهي تقاتل تحت راية الصليب، فكيف نصدق أنهم فصلوا الدين عن السياسة، لا شك أنهم يجيرون الدين حسب أهوائهم ومصالحهم.
وها نحن نعاهدك يا رسول الله أننا لن نخدع بعد اليوم أبداً وسنبقى نعمل للإسلام ولدولة الإسلام حتى يظهرها الله أو نهلك دونها، متمسكين بكتاب الله وسنتك، فقد صدعت بها حناجرنا قائدنا للأبد سيدنا محمد... لا تراجع لا استسلام حتى يحكم الإسلام.
بقلم: الأستاذ عبد اللطيف الحريري
رأيك في الموضوع