لما فتح الخليفة مراد الثاني مدينة سلانيك عام 1431م وهزم البندقيين شر هزيمة ودخل المدينة منتصراً، أعلم الحاجب السلطان أن وفداً من مدينة يانيا قد حضر، وهم يرجون المثول بين يديه لأمر مهم... تعجب السلطان من هذا الخبر، إذ لم تكن له أي علاقة بهذه المدينة التي كانت آنذاك تحت حكم إيطاليا.
كانت مدينة يانيا تحت حكم عائلة توكو الإيطالية، وعندما مات كارلو توكو الأول عام 1430م، ولي الحكم بعده ابن أخيه كارلو توكو الثاني، ولكن أبناء توكو الأول غير الشرعيين ثاروا وطالبوا بالحكم، فبدأ عهد من الاضطراب والفوضى والقتال عانى منه الشعب الأمرين، وعندما سمعوا بأن السلطان مراد الثاني بالقرب منهم في مدينة سلانيك قرروا إرسال وفد عنهم.
أمر السلطان مراد رئيس حجابه بالسماح للوفد بالدخول عليه، ثم قال لرئيس الوفد بواسطة الترجمان: أهلاً بكم، ماذا أتى بكم إلى هنا؟ وماذا تبغون؟
قال رئيس الوفد: أيها السلطان العظيم، جئنا نلتمس منكم العون، فلا تخيب رجاءنا.
- وكيف أستطيع معاونتكم؟
- يا مولاي، إن أمراءنا يظلموننا، ويستخدموننا كالعبيد، ويغتصبون أموالنا ثم يسوقوننا للحرب.
- وماذا أستطيع أن أفعل لكم؟ إن هذه مشكلة بينكم وبين أمرائكم.
- نحن أيها السلطان لسنا بمسلمين، بل نحن نصارى، ولكننا سمعنا كثيراً عن عدالة المسلمين، وأنهم لا يظلمون الرعية، ولا يكرهون أحداً على اعتناق دينهم، وأن لكل ذي حق حقه لديهم... لقد سمعنا هذا من السياح، ومن التجار الذين زاروا مملكتكم، لذا فإننا نرجو أن تشملنا برعايتكم وبعطفكم، وأن تحكموا بلدنا لتخلصونا من حكامنا الظالمين.
ثم قدّموا له مفتاح المدينة الذهبي... واستجاب السلطان لرجاء أهل مدينة يانيا، وأرسل أحد قواده على رأس جيش إلى هذه المدينة، وتم فتحها فعلاً في السنة نفسها، أي في سنة 1431م.
هذه ليست من قصص الخيال بل هي حقيقة تاريخية...
لقد كان المسلمون رمزاً للعدل والإنصاف، وكانوا ملاذاً للناس مسلمين وغير مسلمين، يحمونهم، وينصفونهم، ويؤدون لكل ذي حقّ حقه، ذلك أنه كانت لهم دولة تظلهم، وإمام يرعاهم ويذود عنهم.
في ظلّ التشتت الذي تعيشه اليوم أمة محمد صلوات ربي وسلامه عليه، والتنازع الحاصل بين الدويلات المِزَق التي تحكم وتتحكّم بالمسلمين، التي أنشأها الغرب على أنقاض دولة الخلافة التي هدموها تجد أنّ الحكام الذين نصّبهم الغرب على هذه الدويلات لا يملكون من أمرهم شيئاً، ولا يأمن أحدهم شرّ الآخر عليه، وتراهم متنازعين متحاقدين، أسلموا كلّ أمورهم لأسيادهم، فإن نزلت بأحدهم نازلة، أو حاق به خطر وجّه بصره قبل المغرب يطلب العون من عند أعداء الله أرباب حُكمه، ليرفعوا عنه، ويعينوه، ويثبّتوا عرشه إن زعزعه شعبُه أو أحد من معارضي حكمه.
لقد امتدّ تاريخ تآمر الغرب على دولة الخلافة لقرون، بعد أن رأوا بأمّ أعينهم أنّ دولة الإسلام قادرة على دكّ حصونهم وقهر جيوشهم ودخول بلادهم فاتحين، فكان الغزو الفكري والتبشيري وتهيئة الأوضاع داخل دولة الخلافة تمهيداً لصناعة عملاء وكيانات لهم لزعزعتها ثمّ هدمها، وبعدئذ كان الغزو العسكري بتحالفات أنشأها الغرب فيما بين دولهم التي كانت متناحرة، حتى إنهم حاولوا مراراً التحالف مع المغول فأرسلوا السفارة تلو السفارة ليحرضوهم على غزو دولة الخلافة رغم ما فعله المغول بالغرب من غزوٍ ودمار، إلا أنّ الغرب آثر التحالف مع المغول بسبب قوتهم الهائلة وعلمهم أن المغول إذا دخلوا بلداً دمّروها وأهلكوا الحرث والنسل...
ثم كان الغزو السياسي حين قسّموا بلاد المسلمين إلى قطاعات وكيانات وأوهموا بعدئذ أهل البلاد بأنهم مستقلون لهم حدود وأعلام وأنظمة حكم، تلك الأنظمة الوظيفية التي صنعها الكافر لتكون أداته لاستمرار احتلاله وتحقيق مصالحه...
ثمّ بعد ذلك وضعوا الخطط الشيطانية للحرص على عدم عودة المسلمين كما كانوا بدولة وإمام، فأفسدوا العقول وسمّموا المفاهيم والأفكار، وزعزعوا ثقة الكثير من المسلمين بدينهم، وركّزوا عقدة الهزيمة في القلوب والعقول، وغاصوا في مناهج التعليم وسياسته التي رأوا أنها أنجع أدوات السيطرة على الأجيال بتجهيلهم وإفراغ أدمغتهم من تاريخهم وحضارتهم، وكل ذلك بمساعدة الأنظمة الخائرة المتواطئة العميلة...
نحن في شهر رجب الخير، نحن كنّا ولا زلنا خير أمّة أخرجت للناس، أحفاد الصحابة الميامين، أمّة صنعها كتاب الله واصطفاها الله وأيّدها بنصره إن هي نصرته، ونحن ناصروه بعون الله تعالى، وستعود أمّة عزيزة كريمة رائدة وقائدة...
الخلافة تعني إقامة دين الله في أرضه، وهذا فيه خير الدنيا والآخرة، وهي ليست لفئة من المسلمين دون غيرها، بل هي لكل من آمن بالله رباً وبمحمد نبياً، واجبٌ على الجميع العمل الحثيث لها، وجوباً قرّره ربّ العالمين في جملة من آياته المحكمات، ولا عذر لمن يتخاذل وهو قادر.
يقول سبحانه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، ويقول: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ يَا مُحَمَّدُ: إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً، فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، أَوَ قَالَ: مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا».
رأيك في الموضوع