إنّ الدور المُركب الذي تلعبه إيران في المنطقة يتناسب مع كونها قطباً سياسياً إقليمياً طائفياً رئيسياً فيها، وهو يتطلّب منها إيجاد شبكة واسعة من المليشيات والأذرع المُتنوعة المُرتبطة بمؤسّسات مدنية طائفية واسعة.
فالوجود الإيراني إذا تغلغل في دولة ما فهو غالباً ما يأخذ الصبغة الطائفية، ومليشيات إيران العاملة في العراق وسوريا ولبنان كلها تصطبغ باللون الطائفي، ونفوذها العسكري ملموس ومحسوس على الأرض، ويكون دائماً مصحوباً بالمؤسّسات المُجتمعية الطائفية.
ولو أخذنا سوريا على سبيل المثال نجد أنّ إيران قد استغلت اندلاع الثورة، وتحالفت من فورها مع نظام الطاغية بشار، واعتبرت منع سقوطه قضية مصيرية بالنسبة لها، فبدأت المليشيات التابعة لها في سوريا في الانتشار مُنذ أيار/مايو 2011، أي بعد نحو شهر ونصف الشهر من اندلاع الثورة ضد النظام السوري المجرم، وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان فقد بلغ عديد هذه المليشيات (سورية، عراقية، لبنانية، أفغانية، باكستانية) ما لا يقل عن 65 ألف عنصر يتوزعون في مناطق سيطرة الحكومة السورية، وقد أقرّ قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي في آب/أغسطس 2020 بأنّ عدد هؤلاء أكثر من 100 ألف عنصر، وهم منضوون في 70 مليشيا، وقد بلغ إجمالي عدد المواقع الإيرانية في سوريا 55 قاعدة و515 نقطة عسكرية.
وذكر المرصد في كانون الأول/ديسمبر 2021، أنّ تعداد عناصر المليشيات التابعة لإيران في الجنوب السوري وحده (محافظات درعا، القنيطرة، السويداء) يقدر بنحو 11500 عنصر، ونُشرت خريطة في منتصف عام 2022 لمواقع القوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها في مناطق سوريا الجنوبية والوسطى والشمالية، وأظهرت وجود 28 موقعا للقوات الإيرانية والمليشيات التابعة لها في المنطقة الجنوبية وحدها.
وتغلغلت إيران كذلك في داخل الجيش السوري نفسه من خلال سيطرتها على قوات النمر التي يبلغ عديدها نحو 8 آلاف مقاتل بقيادة العميد سهيل النمر، وهي قوات سورية برية موالية لإيران تمتلك دعما عسكريا ضخما.
إنّ هذه الإمكانات والقدرات الإيرانية في التمدّد الإقليمي تجعل من إيران محط أنظار الدول الكبرى للتعاون معها، فهي تملك ميزات لا تملكها الدول التابعة كمصر والسعودية مثلاً، وهذا من شأنه أنْ يجعلها دولة تدور في الفلك وليست دولة تابعة، فهي بسياستها الطائفية المُتميّزة، وبتفعيل قدراتها في تصدير فكرها الثوري الطائفي، جعل لها قوة وثقلاً إقليمييْن تتميز بهما عن غيرها من سائر دول الإقليم، فأصبحت بذلك مُنافساً قوياً لكيان يهود ولتركيا في الإقليم نفسه.
لكنّ قوتها الإقليمية تلك لا يُمكن أنْ تنجح من دون الاعتماد على قوة دولية كبرى، وبما أنّ أمريكا هي التي مكّنت نظام الملالي من السيطرة على إيران وطرد الشاه من إيران عام 1979 وهو الذي قال قولته المشهورة: "هكذا أخرجتني أمريكا من إيران وألقتني كالفأر الميّت"، وجاءت بالخميني بدلاً منه كحاكم مطلق لإيران بعد تحييدها للجيش، فإنّ نظام الحكم الطائفي هذا مُنذ ذلك التاريخ وهو مدين لأمريكا بالوجود والاستمرار، وتُوّج هذا التعاون والتنسيق بين أمريكا وإيران بحربي أمريكا على العراق وأفغانستان، ثمّ بقيام أمريكا بتسليم العراق لإيران بشكلٍ مكشوف، وبعد ذلك تمكين إيران من سوريا ولبنان واليمن، فلولا هذا التعاون بين أمريكا وإيران لما تمكّن النظام الإيراني الحالي من إحكام قبضته على الحكم.
وأمّا القول إنّ إيران سيطرت على هذه الدول بقوتها الذاتية فهو قول ساذج يتناقض مع الحقائق الجيوسياسية تناقضاً لا يستقيم معه أي تفكير سليم، فهل أمريكا من السذاجة والغباء أنْ تُحارب في العراق، وتحشد العالم من أجل حربها تلك، وتقوم باحتلاله بكل تلك الجيوش التي حشدتها، ثمّ بعد كل هذه الجهود الضخمة تتركه لإيران على طبقٍ من ذهب؟ فأي منطقٍ هذا؟ وأية بلاهة هذه؟!
فالواقع السياسي المحسوس يقول إنّ الحفاظ على هذا النفوذ الأمريكي الضخم في العراق يستلزم استخدام قوة إقليمية فاعلة قادرة على السيطرة والحفاظ على هذا النفوذ لمدة طويلة، والتفكير السياسي الصحيح في هذه المسألة يوصل إلى حقيقة أنّ إيران بالنسبة لأمريكا هي أفضل من يقوم بهذا الدور.
لكنْ في عالم السياسة لا يُمكن أنْ يُقال علناً إنّ إيران هي خادمة مُطيعة للمصالح الأمريكية، لأنّ قول ذلك يفضح إيران، ويكشفها أمام شعبها على أنّها دولة عميلة، لذلك كانت اللعبة السياسية الأبرع تكمن في إظهار العداء الأمريكي العلني لإيران إعلامياً، بينما في الواقع يكون التعاون بين الدولتين على أكمل وجه من تحت الطاولة، وهو يُشبه ما كان يحصل في القرن الماضي بين أمريكا وعبد الناصر في مصر.
فأمريكا دأبت مُنذ مجيء الخميني على تضخيم الدور الإيراني في الإقليم بشكلٍ مُتعمّد، وهذا التضخيم هو لعبة أمريكية مُستمرة حتى الآن.
يقول مُدير المخابرات الأمريكية وليام بيرنز مثلاً: "إنّ مفتاح أمن (إسرائيل) والمنطقة هو التعامل مع إيران، لقد شجّعت أزمة غزة النظام الإيراني، ويبدو أنّه مُستعد للقتال حتى آخر وكيل إقليمي له، كل ذلك مع توسيع برنامجه النووي وتمكين العدوان الروسي، وفي الأشهر التي تلت السابع من تشرين الأول/أكتوبر بدأ الحوثيون، الجماعة المُتمرّدة المُتحالفة مع إيران بمهاجمة السفن التجارية في البحر الأحمر، ولا تزال مخاطر التصعيد على جبهات أخرى قائمة".
فتصريح بيرنز هذا فيه من التضخيم ما أوهم أنّ إيران هي مفتاح أمن كيان يهود والمنطقة، وأنّ لها وكلاء مستعدين للقتال إلى ما لا نهاية، وأنّها تُساعد روسيا، فصوّرها وكأنّها دولة عظمى، والواقع أنّه بتصريحه هذا إنّما يُخوّف بها دول الخليج، ويُلوح بها كعصا ضدّ كيان يهود للجمه وتحجيمه، ويستخدمها كذلك لشيطنة روسيا وإيقاع العقوبات عليها.
فإيران ما زالت تدور في فلك أمريكا، وأمريكا مُنذ العام 1979 ما زالت تستخدمها كفزّاعة ومُهيّج للمنطقة، بالإضافة إلى كونها وكيلاً لها في العراق وسوريا واليمن، وأمّا سقوط قتلى أمريكيين على يد بعض أذرع إيران في بعض الحوادث فغالباً ما يكون مردّه إلى أخطاء فنية تكنولوجية وليس الأمر مقصوداً، وقد لمّحت وسائل إعلام أمريكية بالفعل إلى وجود أخطاء فنية في حادثة القاعدة الأمريكية شمال شرق الأردن، فكل أذرع ومليشيات إيران العسكرية ما تزال تحت السيطرة الإيرانية الفعلية، وما زالت إيران بالنسبة لأمريكا تابعاً إقليمياً ناجحاً يُحقّق لها أفضل المكاسب.
رأيك في الموضوع