بعد تصاعد الحديث الإعلامي عن وجود قنوات حوار غير مباشر بين قادة اليهود وحركة حماس ظلَّ موقف الحركة باهتا: ما بين نفي المفاوضات وتقرير استلام العروض الدولية. وهذا الموقف المتأرجح يفتح الباب أمام الحركة للإعلان عن اتفاق هدنة كمسار سياسي في غزة فيما إذا تبلور. هذا المقال يناقش مدى جدّية ذلك المسار السياسي وعلاقته بتطورات الموقف المصري من حركة حماس، ومن ثم يخلص إلى الموقف من تلك الاتصالات السياسية.
في السياق السياسي، لم يعد سرا أن حركة حماس تسلّمت رسميا أفكارا من مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة نيكولاي ميلادنوف، والمبعوث السابق للرباعية الدولية توني بلير. وهي جاءت محصلة للزيارات المتكررة للوفود الأوروبية لغزة خلال الفترة الماضية. وكان توني بلير قد التقى رئيس المكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، مرتين في الدوحة. وأفضت النقاشات المستفيضة ضمن الإطار الحركي في غزة إلى بلورة توجهات عامة نحو قبول المقترحات المقدمة، وتم ربط ذلك القبول بأن قطاع غزة لا يتحمل اندلاع مواجهة عسكرية مع الكيان اليهودي (رأي اليوم 16/6/2015).
وتمَّ التفاوض على بنود اتفاق الهدنة لمدة خمس سنوات قابلة للتمديد، وتقضي بوقف حماس لجميع العمليات العسكرية ضد الكيان اليهودي، بما يشمل وقف إطلاق الصواريخ على أن يتم مقابل ذلك رفع الحصار المفروض على قطاع غزة، ومن ثم التفاوض على إنشاء مطار، وميناء بحري تحت المراقبة الدولية، ويتم بذلك فتح غزة نحو العالم (سوا 21/6/2015). وظل النقاش "ضبابياً فيما يتعلق بمسألة سلاح المقاومة في القطاع" (مقال أسامة أبو ارشيد-العربي الجديد 26/6/2015).
ولا يخفى أن هذا المسار يلتقي مع المصالح اليهودية ويتوافق مع انتهازية نتنياهو، وقد نقلت وكالات الأنباء عن نتنياهو قوله: "مصالح بلادنا تفرض علينا عقد صفقة مع حماس".
إن سياق الأخبار يفضي إلى أن ذلك الاتفاق هو أوروبي المنشأ والمسار، وتلعب رجالات قطر ذات الولاء البريطاني الدور الأهم فيه، وهي التي تناكف وتنافس الدور المصري، وتشاكس السيسي الذي يسير لتحقيق المصالح الأمريكية. ومما يؤشر على ذلك أن رئيس اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة محمد العمادي لم يدخل عبر مصر إلى قطاع غزة، بل عبر معبر "إيرز" اليهودي (وكالة معا 28/5/2015).
وفي المقابل، تحاول مصر الدخول على هذا الخط على الأقل كي لا يتجاوزها - ولا يتجاوز سيدها الأمريكي - القطار الأوروبي الذي يحمل حماس نحو اتفاق الهدنة، ومصر تلعب ورقتها السياسية عبر القيادي الحمساوي المقرب منها موسى أبو مرزوق، ولذلك "نقلت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأمريكية عن (أبو مرزوق) قوله "نريد لمصر أن تستأنف دورها التاريخي في القضية الفلسطينية ليس فقط في الوساطة والمصالحة بين حماس وفتح، بل أيضا في المفاوضات غير المباشرة بيننا وبين إسرائيل" (سوا 21/6/2015).
وقد سارعت مصر للتقارب مع حماس قبل أن يتجاوزها اتفاق الهدنة ويفقدها ورقة الضغط على حماس حيث سيفتح الاتفاق مصر للعالم عبر البحر والجو، مما يقلل حينها من أهمية معبر رفح البرّي الذي تضغط فيه مصر على حماس. وفي هذا السياق تم إلغاء الحكم القضائي المصري الذي اعتبر حماس حركة إرهابية، وليس ثمة من عاقل يمكن أن يدّعي أن الإلغاء قد تم بعد "صحوة ضمير" القضاء المصري.
ولا يمكن فصل تلك الاتصالات السياسية عن محاولات فرنسا لإيجاد اختراق في ملف القضية، ولكن فرنسا تسير على سكة قطار حل الدولتين (الدائم) الأمريكي، أما مشروع الهدنة فيسير باتجاه الحلول المؤقتة، وهو أكثر حظّا عند نتنياهو وحكومته الليكودية التي ترفض مبدئيا فكرة الدولة الفلسطينية. ومالت السلطة الفلسطينية نحو دفع المشروع الفرنسي، قبل أن يتجاوزها اتفاق الهدنة، مع أن قياداتها أمريكية الولاء وتدرك موقف أمريكا القاضي بأن تبقى أوراق حل الدولتين بيدها.
وحيث إن أمريكا لا تسمح لتمرير حل أوروبي ولو كان مؤقتا، وحيث إنها تتطلع إلى ترتيب الوضع الإيراني وهي منشغلة بالملف السوري، فليس ثمة من أفق لإنجاح مشروع الهدنة رغم إصرار الجهات الأوروبية ورجالاتها في المنطقة على استغلال الأجواء السياسية مع قرب دخول سنة الانتخابات الأمريكية واستغلال المصالح اليهودية الليكودية.
ولذلك جدير بقادة حماس أن تعي هذا الوضع السياسي العام، وأن تدرك المصالح السياسية للأطراف المتدخّلة بهذا الملف، قبل أن تتورط في التقدم بهذا المسار، وقبل أن "تشرعن" المفاوضات السياسية مع اليهود في عقلية أتباعها ومؤيديها.
وبالفعل تمت مباشرة الترويج للاتفاق عبر كتابات سياسية ذات صبغة تحليلية ولكنها بمضمون ترويجي للاتفاق من قبل المقربين من الخط السياسي والفكري لحماس، من مثل مقال أبو رشيد المشار إليه أعلاه، والذي يكشف عنوانه مضمونه الترويجي: "هدنة بين حماس وإسرائيل.. ما المشكلة؟"
إن المشكلة كبيرة، وكبيرة جدا، هي مشكلة سياسية وفكرية إسلامية، بل هي كارثة على قضية فلسطين، لأكثر من سبب، فاتفاق الهدنة هو مشروع سياسي غربي وليس مجرد تكتيك للمقاومة، وقد تبلور بعد حصيلة مفاوضات (غير مباشرة) مع الكيان اليهودي، مما يعني بوضوح أنه سير على خطا فتح، بل تنافس على مسار المفاوضات والتحركات الدبلوماسية بعد التنافس السابق على كعكة السلطة ومؤسساتها. وهو إصرار على حصر قضية فلسطين ضمن المبادرات الدولية الباطلة والمنحازة لليهود، ورميها في أحضان الأنظمة العربية المتخاذلة عن نصرة فلسطين وأهلها.
رأيك في الموضوع