قالوا: "إذا عُرفَ السبب بَطُلَ العجب"، ولهذا لا بد من مقدمة نلج منها للإجابة على السؤال المطروح.
على مر العصور تصارعت الدول فيما بينها على مرتبة الدولة الأولى في العالم، لأن هذا يمكّنها من السيطرة على العلاقات الدولية، ولا نقصد العلاقات التي تربطها بدولة أخرى فحسب بل حتى علاقات الدول الأخرى ولو لم تكن الدولة الأولى طرفاً فيها.
وقد تناوبت على هذه المكانة دول عدة كالرومانية والفارسية وقبلهما الفرعونية والبابلية وغيرها، وعندما جاء الإسلام تربعت دولته على قمة الهرم الدولي، إلى أن تمكن الغرب الكافر من إسقاط دولة الخلافة العثمانية، فظهرت بريطانيا دولةً أولى في العالم، فقامت بصياغة النظام الدولي بما يوافق إرادتها عندما أنشأت عصبة الأمم عام ١٩١٩م، لكن سرعان ما نشبت الحرب العالمية الثانية وكان من أبرز نتائجها ظهور أمريكا المنتصر الوحيد بلا خسائر لتصبح الدولة الأولى، وبرز الاتحاد السوفيتي كقوة كبرى، وجاء مع هذا التغير تغيير لقواعد النظام الدولي فألغيت عصبة الأمم، وأعادت أمريكا تأسيس النظام الدولي عبر ما يعرف بهيئة الأمم المتحدة عام ١٩٤٥م لتكون هي ومجالسها ومنظماتها أدوات تتمتع من خلالها أمريكا بالسيطرة على العلاقات الدولية. وهنا بدأت أمريكا تسحب البساط من تحت الدول الأوروبية المعروفة بالاستعمار القديم وبدأ عصر الاستعمار الحديث عبر الأنظمة العميلة لأمريكا، وأسلوبها هو الانقلابات وليس من خلال الاحتلال العسكري المباشر.
وكانت تتناوب في سوريا انقلابات العسكر بتناوب عملاء الدول الغربية ما بين فرنسيين وإنجليز وأمريكان، ولم تثبت على حال حتى وافق حافظ الأسد في عام ١٩٧٠ على تغيير ولاء حزب البعث العربي الاشتراكي من العمالة لبريطانيا إلى العمالة لأمريكا فيما يعرف بالحركة التصحيحية، وقام باعتقال من خالفوه من عملاء بريطانيا.
وعليه فإن ثورة الشام وإن كانت ثورة على بشار أسد لكنها ثورة على عميل أمريكا مباشرة أي أنها ثورةٌ على مصالح أمريكا في المنطقة بل في العالم أجمع لما لسوريا من مكانة في خارطة الجغرافيا السياسية.
ومنه يمكن أن ندرك سبب إحجام أمريكا عن التدخل عسكرياً للإطاحة برأس النظام، بخلاف ما فعلته في ليبيا مع القذافي عميل بريطانيا، حيث سعت جاهدةً للحيلولة دون سقوط أسد عسكرياً لئلا تخرج سوريا من قبضتها، فأعطته المهلة تلو الأخرى عبر الجامعة العربية ومجلس الأمن أحد أدوات السيطرة الأمريكية على النظام الدولي، ثم أعطت الضوء الأخضر لروسيا للتدخل ومساندة أسد عقب لقاء أوباما بوتين بتاريخ ٣٠/٩/٢٠١٥ ثم كان التدخل الروسي وذلك بعدما فشلت إيران وحزبها اللبناني في القضاء على ثورة الشام.
ولهذا فإن أمريكا تصرح دوماً أن الحل السياسي هو السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة السورية، بينما في الحقيقة هو السبيل الوحيد لإنهاء أزمة أمريكا في سوريا، كون نجاح الثورة بإسقاط النظام يعني إقامة دولة الإسلام التي ستعود لمكانتها الدولية كدولة أولى في العالم مما يعني ليس خروج سوريا عن هيمنة أمريكا فحسب بل انتهاء نفوذها في العالم.
ونظرة متمعنة على بنود الحل السياسي الأمريكي تُري أنه حل يحافظ على نفوذ أمريكا ولا يحقق لأهل الثورة شيئاً مما يطمحون له وقدموا في سبيله كلَّ هذه التضحيات على مدى عقد من الزمن:
- اللجنة الدستورية: تم تشكيل هذه اللجنة بنسبة الثلث، ثلثهم من اختيار النظام المجرم، وثلثهم من اختيار الأمم المتحدة، وثلثهم من اختيار الائتلاف الوطني صنيعة أمريكا؛ ما يعني أن أمريكا تحاور نفسها، وبالتالي فما سينتج عن هذه اللجنة يعبر عما ترسمه أمريكا لنا بأيدٍ آثمةٍ ستصوغ لنا دستوراً وضعياً يحدد لنا تفاصيل حياتنا وفق ما تسمح لنا به لا وفق ما نريده أو نرتضيه.
- هيئة حكم انتقالي: وأيُّ حكم ننتظر منها؟! إذا كان تشكيل المجلس الوطني في الدوحة قد تمَّ بإشراف وحضور مباشر للسفير الأمريكي روبرت فورد، ومن بعده الائتلاف الوطني شكلته سفارات الدول التي تملي على تكتلاته وأعضائه، فلن تكون هيئة الحكم الانتقالي بدعةً عن سابقاتها بل ستحددها قرارات أمريكا والأمم المتحدة وأدواتها من الدول الفاعلة في الثورة.
- انتخابات برعاية أممية: عبر هذه الانتخابات سيتم اختيار الطبقة السياسية الحاكمة التي ستأتينا عبر بوابة الحل الأمريكي السياسي، تماماً كما جاءت الطبقة السياسية الحاكمة في العراق على الدبابات الأمريكية، وما ذاقه أهل العراق من أولئك لا يختلف عما سنذوقه من هؤلاء. ولا يظنن أحدٌ أن الإشراف الأممي على الانتخابات المزعومة هو لضمان نزاهتها بل هو لإحكام القبضة عليها، وبكل الأحوال ستكون نتيجتها وفق رغباتهم.
- إجراءات بناء الثقة التي يجب أن تتم خلال المراحل السابقة: ولا حاجة لبيان حجم الثقة بالنظام ومدى التزامه بالإجراءات المطلوبة، فقد وضحها تعامله مع المناطق التي أعادها له الضامنان التركي والروسي، فشاهدنا معنى الثقة بنظام كافر فاجر، فاعتقل شباب المصالحات وساقهم لقتال أهلهم في إدلب رغماً عنهم بخلاف تعهداته المزعومة، ورأينا الثقة في تعامله مع أعراضنا في درعا وحمص والغوطة وخان شيخون. فإن كان هذا تعامله مع أن الثورة قائمة فيما بقي من مناطق محررة وما زلنا نمتلك سلاحاً، فكيف سيتعامل معنا إن قبلنا بالحل الأمريكي وانتهى بنا الأمر تحت سلطان انتقامه؟!
وأخطر ما في الحل السياسي الأمريكي هو المحافظة على علمانية الدولة؛ لأن العلمانية كما تمنح البشر حق التشريع فإنها تمنحهم حق تعديل التشريع، وجميعنا يعلم كيف أن هذه التشريعات تتغير بين حين وآخر بحسب الظروف وبحسب القوى المؤثرة، فما تشرعه لنا اليوم المجالس المصنعة أمريكيا لامتصاص غضبة الناس وتهدئتهم من مثل تحديد مدة حكم الرئيس وتقييد صلاحياته ووضعه تحت المحاسبة، سيتم تعديله غداً بعدما يهدأ الناس وتتركز السلطة بيد من تختاره أمريكا حاكماً علينا وستأتي التعديلات الدستورية والقانونية لتطلق له الصلاحيات وتمدد له فترة الحكم وتمنحه الحصانة من المحاسبة وتعطيه صلاحيات باسم قانون الطوارئ يعطل بها عمل القوانين حسبما يراه، ولهذا فإن نظام الحكم العلماني هو مصنع الطغاة، لا ننتهي منهم إلا بالقضاء عليه، ومن عجز عن إدراك نتائج علمانية الحل السياسي الأمريكي في الشام لأنه لم يطبق بعد، فلينظر إلى إنجازات العلمانية في مصر، حيث تمت صياغة الدستور لامتصاص فورة الناس ثم توالت عليه التعديلات لتصنع طاغيةً جديداً باسم آخر، أو لينظر إلى العراق وما يعانيه أهلنا هناك نتيجة الحلول الأمريكية.
أما الخطوات التي تخضع لها الأنظمة العلمانية صاغرةً أمام أسيادها لتأتينا بكل ضنك العيش: فكما تقدم معنا أن أمريكا تستخدم المنظمات الدولية كأدوات لفرض إرادتها على الدول التي قَبِلَ حكامها الخضوع والتبعية في اللعبة الديمقراطية. لهذا سيكون الاقتصاد مرهوناً لقرارات صندوق النقد والبنك الدوليين وبالتالي ستكون ثرواتنا ونمونا الاقتصادي محددا بالفتات الذي يبقونه لنا من خيراتنا المنهوبة. والحياة الاجتماعية ستكون بحسب إملاءات منظمة اليونيسيف للأمومة والطفولة وبحسب اتفاقية سيداو التي تهدف للقضاء على الأسرة المسلمة بكل تفاصيلها وتعيد تأسيسها بحسب المقاييس الغربية. وأما التعليم الذي نبني به أجيالنا فستحدده لنا منظمة اليونيسكو لتحشو مناهجنا وعقولنا بأفكار الغرب فترينا الرذيلة تحرراً والربا تقدماً اقتصادياً والردة عن الإسلام حرية عقيدة وترينا أحكام القصاص والحدود وحشيةً... وبالمختصر ستنشئ لنا أجيالاً ممسوخة الأفكار منسلخة عن هوية أمتها في الماضي والحاضر لتسير مع الغرب في المستقبل كما يريد، أما سياستنا الخارجية فستكون خاضعة لهم عبر مجلس الأمن وقراراته التي تمضي بحق الصاغرين فقط.
وفي هذا بيان كافٍ لدعاة الحل السياسي وللمخدوعين به يبتغون به حريةً وكرامة، ولا يبقى للمخلصين الواعين من أهل الثورة في الشام إلا أن يرفضوا الحلول الغربية، وأن يأخذوا على يد من يسوقون لها، وأن يدركوا تماماً أن الحل الصحيح الوحيد إنما يكمن بالتمسك بحبل الله المتين فيطلبوا النصر منه سبحانه بالعمل وفق ما يرضيه لإعلاء كلمته وإقامة حكم الإسلام في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
بقلم: الأستاذ مرعي الحسن – ولاية سوريا
رأيك في الموضوع