إنّ تجربة العشر سنين الماضية من الثورات العربية أكدت على حقيقة أن الثورات في البلدان الاسلامية لا تملك الديمومة ولا القدرة على الاستمرار والثبات إلا إذا زُوّدت بمحركات إسلامية، فنجاحها وانتصارها مشروط بوجود مثل هذه المحركات، فلا تكفي دوافع الغضب والسخط لدى الشعوب لاستمرارية الثورات، بل لا بُدّ لها من قاعدة فكرية إسلامية صلبة ترتكز عليها، ولا بُدّ لها من محركات إسلامية قوية تمدها بالوقود الثوري الدائم لكي تستمر في الحركة الجماهيرية، والاندفاع الشعبي لأطول مدة زمنية.
فالزخم الشعبي العفوي لا يعيش طويلاً من دون محركات فكرية عقائدية، أو مشاعر روحية إيمانية، والاكتفاء بأحاسيس الظلم والقهر الغريزي لا يكفي لإشعال الثورة لمدة طويلة، وأمّا الدوافع الوطنية والقبلية والقومية الموجودة غريزياً عند الناس فهي مجرد أدوات دفاعية مؤقتة، وتفتقر إلى الفكر المُوجه، والقيادة القادرة على التأثير، لذلك فهذه الأدوات تتأثر بكل ما يكتنفها من أفكار، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى التحاقها بتيارات فكرية مُتباينة يستخدمها أعداء الثورة بسهولة، وتكون نتيجتها المحتومة بروز التناقض والميوعة فيها، ومن ثم ينتهي المطاف بها إلى التشرذم والاندثار.
لقد تغلبت المحركات الإسلامية في بداية اندلاع الثورات العربية على سائر المحركات الأخرى، فلم يكن لها منافس، وتمكنت من الإطاحة برؤوس الطواغيت بسهولة ويسر ابتداءً من زين العابدين بن علي، ومروراً بحسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح، وانتهاءً بعبد العزيز بوتفليقة وعمر حسن البشير.
لكن قلة من العلمانيين الذين لا وزن لهم ولا قيمة تمكنوا من التأثير على بعض الجماعات والفصائل الإسلامية، فطالبوها بالمشاركة معها في الثورة، وفي الحكم، تحت شعارات الديمقراطية والوطنية، فقبلت هذه الجماعات والفصائل بفكرة المشاركة بغباء تحت شعار الديمقراطية والوحدة الوطنية، فكانت النتيجة كارثية مدمرة للثورات ومجهضة لها.
فالانخداع بالتجربة الديمقراطية جعل الأكثرية الإسلامية المشاركة في الثورات ألعوبة بأيدي القلة العلمانية، وجعلها تقدم التنازلات المتتالية حتى انتهى بها المطاف إلى خروجها تماماً من اللعبة الديمقراطية، وبقاء العلمانيين بمفردهم فيها، فقاموا بذلك بالمهمة المرسومة لهم، وسلموا الحكم للطواغيت بعد إنهاء الثورات التي شاركوا فيها في البداية كعناصر هامشية، وهو ما أدى في النهاية إلى عودة الحكم لطغاة أكثر طغياناً من أسلافهم الذين أطيح بهم.
ففي تونس مهد الثورات العربية قدمت حركة النهضة كل التنازلات لشركائها من العلمانيين فلم ينفعها ما قدمته من تنازلات خطيرة لنيل مرضاتهم، فقبل الغنوشي بإبعاد الشريعة الإسلامية من بنود الدستور التونسي، وتخلى عن فكرة الدولة الإسلامية، وتحالف مع أعتى أعداء الإسلام كالباجي قائد السبسي، ودافع بشراسة عن الديمقراطية، فماذا كانت النتيجة؟ أطيح به وبديمقراطيته، ونجح شخص مغمور - قيس سعيد - وبجرة قلم من إلغاء كافة المؤسّسات الديمقراطية التي تغنّى بها الغنوشي وجماعته لمدة السنين العشر الفائتة.
وفي سوريا تحالفت الفصائل الإسلامية التابعة للإخوان المسلمين مع الفصائل العلمانية، وطالبت بالديمقراطية التعددية، فماذا كانت النتيجة؟ أزيلت تماماً من خارطة القوى السورية ولم نعد نسمع بأخبارها.
وأمّا جبهة النصرة فتنصلت أولاً من علاقتها مع تنظيم الدولة، ثمّ تنصلت ثانياً من علاقتها مع القاعدة، ثمّ تنصلت ثالثاً من مفهوم الجهاد إرضاءً للعلمانيين والغربيين، ولم تكتف بذلك بل غيّرت اسمها أيضاً، واشتغلت بجمع الأموال والضرائب والسيطرة على أرزاق العباد، فماذا كانت النتيجة؟ تحولت هيئة تحرير الشام - وهي جبهة النصرة سابقاً - إلى مجرد حرس حدود تحمي الدوريات الروسية وتمنع المجموعات المخلصة من مقاتلة النظام.
وفي ليبيا تعاونت الحركة الإسلامية مع العلمانيين العملاء الذين نصّبّهم الأوروبيون حكاماً في طرابلس بعد القذافي، والتزموا باتفاقات رسمتها بريطانيا وأوروبا مثل الصخيرات وبوزنيقة بالمغرب واتفاقات برلين وباريس وروما وجنيف والقائمة تطول، فماذا كانت النتيجة؟ خروج الإسلاميين ضعفاء من الثورة وإقحامهم في حروب أهلية لا تنتهي.
وفي مصر وصل الإخوان إلى مصر بفعل المحركات الإسلامية للثورة، لكنهم عندما تعاونوا مع العلمانيين وقدّموا لهم التنازلات سقطوا من الحكم سقوطاً مُدوياً.
وفي اليمن بلغ تأثير المحركات الإسلامية في بداية الثورة أنْ خرجت مظاهرات مليونية تطالب بعودة الخلافة الإسلامية، لكنّ تعاونهم مع الحكومات العميلة، ودخول الحوثيين على الخط أدّى إلى إجهاض الثورة اليمنية وتحويلها إلى حرب أهلية.
وفي السودان ابتعد غالبية الإسلاميين عن تصدر الثورة، ورضوا بتركها لليساريين العلمانيين الذين زعموا كذباً أنّ غالبية الإسلاميين هم من أنصار الطاغية المخلوع حسن البشير، ولكن للأسف انطلت عليهم الحيلة، ورضي الكثير منهم بترك الساحة لليساريين مختارين، بذريعة تجنب الفوضى وعدم سفك الدماء، فكان تنازلهم هذا سبباً في انتكاس الثورة، ومجيء حكام عملاء طبّعوا العلاقات مع كيان يهود.
وفي الجزائر اشترط بعض العلمانيين والوطنيين الذين لا انتماء فكري لهم اشترطوا إبعاد الإسلاميين من الحراك بحجة إبقاء الثورة خارج حدود التأطير الحزبي، وللأسف قبل غالبية الإسلاميين ذلك من أجل إنجاح الثورة، فماذا كانت النتيجة؟ ها هو النظام قد استطاع إعادة إنتاج نفسه بقالب جديد.
وفي مُقابل ذلك كله فإنّنا نجد أنّ النموذج الطالباني في أفغانستان قد استطاع أنْ يصمد أمام كل القوى الدولية والإقليمية العاتية، واستطاع أنْ يسيطر على معظم المناطق الأفغانية في فترة قليلة بعد انسحاب القوات الأمريكية، وسبب هذا النجاح يرجع إلى تمسك حركة طالبان بمحركاتها الإسلامية، وعدم تقديمها تنازلات كثيرة كما فعلت الحركات الإسلامية في بلدان الثورات العربية، لدرجة أنّ الرئيس الأمريكي جو بايدن قد اعترف بالهزيمة ضمناً في أفغانستان فقال: "أنفقنا على أفغانستان ألف مليار دولار في عشرين عاماً، وجهّزنا 300 ألف جندي أفغاني، وأنا لست نادماً على قرار الانسحاب من أفغانستان، وعلى الأفغان أنْ يُقاتلوا من أجل أنفسهم وأمّتهم".
هذه هي الأدلة العملية على أنّ الثورات لا تملك الديمومة والاستمرار والنجاح إلا بمحركات إسلامية صرفة، وأنّ التشارك أو التحالف مع العلمانيين ودعاة الديمقراطية يؤدي حتماً إلى فشل الثورات وتلاشيها.
رأيك في الموضوع