لم يعرف السودان اقتتالاً بالمعنى في تاريخه الطويل مع دول الجوار، فقط الممالك القديمة دخلت في صراعات مع الأحباش وتمددت شمالاً حتى حكمت بيت المقدس وتخوم الشام، وقد أشار إلى ذلك جون تيمنز وجاكلين ويلسون في الورقة التي قدمت في معهد السلام الأمريكي، في أواخر العام 1992م حيث نشر الباحثان في معهد السلام بواشنطن دراسة حذرت من سعي السودان للانتقال إلى مصاف الدول المصدرة للبترول. وقال الباحثان إن السودان بنظام حكمه الإسلامي المغامر إذا امتلك القدرة الاقتصادية سيشكل تهديداً محتملاً للتوازن السياسي الحافظ للمصالح الأمريكية في المنطقة، وهي عبارة تعني أن هذه الدولة في طريقها لإحراز الاستقلال الاقتصادي الذي يعطيها القدرة على الاستقلال السياسي. ومن ثم لعب دور لا يخضع للمطبخ السياسي لواشنطن حيث جاء في هذه الورقة: "تعمل أمريكا لإيجاد خلل هيكلي في الاقتصاد السوداني لإقعاد هذه الدولة لأنها تشكل خطراً على المصالح الأمريكية ليس فقط في دول الجوار بل في كل الإقليم والمنطقة، لما لهم من تطلعات...".
بعدما كانت الدولة تتطلع للتوسع الخارجي، انقلب الأمر إلى صراعات داخلية بين مكونات أهل البلاد، ويظهر بشكل جلي أن التدخلات الاستعمارية هي التي أججت نار الصراع والخلاف الداخلي، وقد استغلت في ذلك الظروف الطبيعية والموضوعية، ما صنعه الاستعمار البريطاني من سياسة المناطق المغلقة في جنوب السودان، والحواكير في غربه، حيث كان الصراع حول الموارد والثروات، وتقدر الثروة الحيوانية بأكثر من 136 مليون رأس من الماشية، أغلبها في غرب السودان تتحرك مع موسم الأمطار شمالاً وجنوباً وسط مراعٍ ضيقة وموارد مائية محدودة ومناطق زراعية، فتنشأ بشكل طبيعي احتكاكات بين الرعاة فيما بينهم وكذلك مع المزارعين، خاصة في الأزمان التي يكون فيها الجفاف، كانت تحل بسهولة ويسر بما يعرف بالجودية؛ (تدخل عقلاء وحكماء القبائل)، ولكن القوى الاستعمارية الطامعة في البلاد والمتخوفة من طموحات أهلها حولت هذه الصراعات إلى حرب قبلية عرقية وإثنية، فقد قام الإنجليز بخبث ومكر شديدين بإنشاء نظام ظاهره إداري (الإدارة الأهلية)، وحقيقة هو بؤرة لإثارة الصراع والنزاع بين أبناء القبائل، حيث جعل لكل منطقة سيادة لقبيلة معينة مقابل الآخرين مكاناً يعرف بنظام الحواكير، فتطرد القبيلة من يساكنها، وتحتل داره، وتمنع المراعي وموارد الماء عن الآخرين، مما يولد أحقاداً ويفجر اقتتالاً مريراً؛ قتال بقاء أو فناء.
وقد ساهمت الحكومات المتعاقبة في إنفاذ هذا المخطط، حيث قامت بتسليح القبائل خاصة المتاخمة للجنوب لمواجهة تمرد الجنوب، المدعوم كنسياً وعالمياً، مما أوجد السلاح في أيدي عوام الناس، والذي سعَّر الحرب بين الأطراف الأخرى، ثم قام الاستعمار بإنشاء حركات متمردة مسلحة ذات صبغة قبلية أو عنصرية، بدأ التمرد بجماعات مسلحة تقوم بعمليات نهب مسلح واغتصاب وترويع للناس، وحرص صانع التمرد على أن تكون من القبائل ذات الأصول الأفريقية؛ لتقوم الحكومة في الخرطوم؛ (حكومة الصادق المهدي الديمقراطية الثانية 1985م-1989م، والحكومة العسكرية برئاسة عمر البشير 1989م- 2019م) في المقابل بتسليح القبائل العربية (الجنجويد)، لتنهج النهج نفسه في عمليات النهب والاغتصاب والقتل على أساس العنصر؛ فتحول الصراع إلى صراع عنصري بغيض، يصنف الناس في الأقليم إلى (زرقة وعرب)، فأصبح القتل وما زال على الهوية واللون.
ظل الصراع والقتل على الوجه نفسه حتى اندلاع الصراعات الأخيرة بعد سقوط البشير، ولأول مرة في شرق السودان على الطريقة نفسها (نوبة – بني عامر – هوسا – هدندوة)، بدأت حول الأحقية والسيادة على الأرض، إلى دعاوى التهميش لأهل الشرق، ثم تم استغلالها سياسياً عبر عملاء الاستعمار، للمطالبة باستقلال شرق السودان، وإقامة دولة البجا، فبدل أن تعمل الحكومات المتعاقبة على حكم السودان، على وأد نار الفتنة ورتق النسيج المجتمعي، قامت بإذكاء نار الصراع من خلال تسليح القبائل، وضربها بعضها ببعض، والانسياق وراء مخططات الكافر بإضفاء صبغة قبلية وعنصرية إثنية على الصراع، ثم إصرار تلك الحكومات على الإبقاء على نظام الحواكير (إرث المستعمر).
وقد أقدمت الحكومة الانتقالية الحالية بخطوة جريئة لا يمكن أن توصف إلا بأنها جريمة كبرى وخيانة عظمى، عندما وقعت على اتفاقية جوبا للسلام، في تشرين الأول/أكتوبر 2020م، متضمنة خمسة مسارات؛ مسار شرق السودان، ومسار دارفور...، مما يمهد الطريق لإنفاذ مخطط تمزيق وتفتيت ما تبقى من السودان، حيث أعطت هذه المناطق حق الحكم الذاتي خدمة للمشروع الاستعماري؛ الرامي لإبادة أهل السودان قتلاً وتشريداً وتدميراً لموارد البلاد، ونهباً لثرواتها.
كيف السبيل للخروج من هذا المأزق؟ وكيف نحافظ على وحدة البلاد، وصيانة النسيج المجتمعي، وحقن دماء الناس؟
ذلك لن يكون إلا بتبني مشروع سياسي اقتصادي اجتماعي، أساسه عقيدة الأمة، يجعل من الحكم أمانة ومسؤولية، لا غنيمة وكيكة تقتسم بين الطامعين، في سلطة مركزية تحافظ على وحدة البلاد، وتعدل بين أطرافها، يختار فيها المسلمون حاكمهم، ويقطعون الطريق على مرتزقة السياسة عملاء الغرب، ويسد الباب أمام المغامرين من العسكر المدفوعين من مخابرات الاستعمار؛ وهو نظام الحكم في الإسلام؛ الخلافة على منهاج النبوة، قال رسول الله ﷺ: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»، يبايع فيها رجلٌ يطبق الإسلام ويبسط العدل بين الناس، ويقطع يد السفارات الأجنبية الطامعة في بلادنا، ويضرب على أيدي عملائهم في الداخل، يرى الحكم أمانة، يمكّن الناس من ثروات بلادهم، ويعينهم على استغلالها، فتعود خيراً عليهم، ويضمن لهم إشباع حاجاتهم الأساسية، ويمكنهم من إشباع الكماليات، ويحثهم على التآخي بأمر الله ورسوله ﷺ «وكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً»، الناس عنده سواسية، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، يعظم حرمات الناس؛ دماءهم وأموالهم وأعراضهم، يبسط هيبة الدولة وسلطانها، ويأخذ على أيدي المجرمين، ولا يجرم الآخرين، حيث لا تزر وازرة وزر أخرى.
ها نحن قد جربنا حكم المتأسلمين، ثم جاء العلمانيون بعلمانيتهم الكالحة، فزادتنا رهقاً ومشقة، وما بقي لنا إلا نظام الإسلام، فإما أن ننسلخ عن عقيدتنا وديننا، وندخل في عقيدتهم عبيداً صاغرين، أو ندخل في عبودية الله الحقة، بإسلام الأمر كله لله، بإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، فنفوز في الدنيا والآخرة، لها فاعملوا، وكونوا مع العاملين حتى يمنّ الله علينا بنصره.
بقلم: الأستاذ ناصر رضا محمد عثمان
رئيس لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع