لقد تحرك المسلمون لفتح إسطنبول قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة على إقامة الدولة الإسلامية وصيرورتها دولة خلافة عظمى وإسقاطها لأعظم إمبراطوريات العالم آنذاك فارس والروم، بناء على بشرى النبي ﷺ عندما قال: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ». وسئل النبي ﷺ أي المدينتين تفتح أولا القسطنطينية أم رومية؟ فقال: «مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً» أي القسطنطينية. فنال شرف الفتح محمد الفاتح وجيشه سنة 857 هجرية - 1453 ميلادية.
فكانت هذه المدينة غنيمة للمسلمين لأنها فتحت بالقتال إذ رفضوا الاستسلام على أن لا تمس أملاكهم وكنائسهم كما حصل في العهدة العمرية عند فتح بيت المقدس، وأصروا على القتال، فجاز للأمير أن يفعل ما يشاء حسب أحكام الشرع كما حدث في فتح خيبر على عهد رسول الله ﷺ. ولهذا قام محمد الفاتح وحوّل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، فاحتج بابا الفاتيكان فخاطبه الفاتح: "لقد شرفت آيا صوفيا بأن أبقيتها معبدا، ولكن سوف آتي إلى روما وأحول كنيسة الفاتيكان إسطبلا لخيولي". وبدأ يستعد لتحقيق ذلك، وهي البشرى الثانية لرسول الله ﷺ، ولكن المنية وافته قبل أن يحقق ذلك. وكانت كنيسة آيا صوفيا تعتبر مركزا للكنيسة الشرقية الأرذودكسية ورمزا للإمبروطورية البيزنطية حيث بنيت عام 537م على عهد الامبراطور جستنيان الأول. ولهذا كان تحويلها إلى مسجد رمزا لسقوط الإمبراطورية البيزنطية ونذير شؤم للإمبراطورية الرومانية وكنيستها الغربية الكاثولوكية في روما، وانتصارا عظيما للإسلام. ولهذا قال المؤرخ والمبشر الإيطالي لئوتي "إن طرد الإسبان للمسلمين من إسبانيا لا يعادل القضاء على الدولة البيزنطية والاستيلاء على القسطنطينية".
وجاء المجرم مصطفى كمال لعنه الله ليهدم أعرق وأعظم دولة في التاريخ، دولة الخلافة يوم 3/3/1924م، وبدأ يهدم الشريعة وكل شعيرة للإسلام ويبطش بالمسلمين ويعمل على حرفهم عن دينهم بشتى الوسائل ونشر كل رذيلة وفساد، فبلغ به أن أغلق مسجد آيا صوفيا عام 1930م بذريعة إجراء إصلاحات. وفي يوم 24/11/1934م أصدر قرارا باسم حكومته بتحويله إلى متحف، حيث افتتح يوم 1/2/1935م، وقد ظهرت صور الشرك النصرانية على جدرانه، قيل إنها كانت مطلية بالكلس الخفيف، ولكني أظن أنها رسمت من جديد في سنوات الإغلاق، حيث كانت هناك مطالب بتحويله إلى كنيسة، وذكر أن أعداد النصارى المطالبة بذلك قليلة، وهناك تخوف من ظهور ردات فعل قوية من المسلمين.
لقد ازدادت الأصوات المطالبة بعودة آيا صوفيا إلى أصله كمسجد منذ ثمانينات القرن الماضي مع ازدياد قوة الصحوة الإسلامية. وفي عام 2005 رفعت لأول مرة دعوى باسم جمعية "خدمة البيئة والآثار التاريخية والأوقاف الدائمة" يرأسها إسماعيل قاندمير لدى الدائرة العاشرة من المحكمة الإدارية من أجل عودة آيا صوفيا إلى مسجد، فأعلنت المحكمة قرارها بالرفض، وجرت محاولة أخرى عام 2008 فكان قرار المحكمة بالرفض أيضا. ومن ثم رفعت هذه الجمعية الدعوى مرة أخرى عام 2016، فصدر قرارها الرافض. ولكن سمح في عام 2016 برفع الأذان لأول مرة منذ إغلاقه وسمح بإقامة الصلاة في قسم منه وعين إمام دائم. وتعالت الأصوات في السنة الجارية لعودته كمسجد، إلى أن قامت تلك الجمعية برفع الدعوى مجددا يوم 2/7/2020. فأصدرت الدائرة العاشرة من المحكمة الإدارية يوم 10/7/2020م قرارا يقضي بإبطال ذلك القرار واستعادة المكان وصفه كمسجد وفتحه للعبادة.
وهكذا لم ينس المسلمون أثرا من أمجادهم حتى يستعيدوه. وعليهم أن يطالبوا بإبطال قرار إلغاء الخلافة وإعادة إقامتها من جديد لأنه قرار باطل لم يحز على أغلبية المجلس، بل على عدد قليل من شذاذ الآفاق، والمطالبة بإلغاء دساتير الكفر والقوانين والقرارات الجائرة التي أصدرها مصطفى كمال ومن جاء بعده.
وأما أردوغان الذي استغل ذلك، فإنه يوظفه لتركيز حكمه وهو مقدم على انتخابات رئاسية عام 2023م، إذ اهتز في السنوات الأخيرة، بأن خسر العام الماضي في الانتخابات المحلية المدن الكبرى وخاصة إسطنبول التي كان يقول عنها "من يكسب إسطنبول يكسب الحكم"، ومن ثم أسس رجالات من حزبه على رأسهم داود أوغلو وعلي باباجان حزبين على حساب قاعدته الشعبية، والأزمة الاقتصادية مستفحلة في تركيا، مما يزيد معاناة الناس من سوء الأحوال المعيشية وتذمرهم، مما يزيد السخط عليه فيقلل من شعبيته، ولم يتمكن أردوغان من حلها وإنما يعمل على التخفيف من وطأتها بمسكنات وتحايلات تعمق الأزمة، فمثلا عندما أصدر قرارا بإقراض الناس بربا منخفض لشراء بيوت حتى ينشط السوق نتج عنه إقبالهم على ذلك بعد فتاوى باطلة من رئاسة الديانة بجواز ذلك. ولكن النتيجة كانت أسوأ، إذ تضاعفت أسعار البيوت فلم يستفيدوا من هذا الربا الحرام بل تضرروا فزادت أعباء الدين عليهم. عدا ذلك فإن عليه سخطا بسبب خداعه لأهل سوريا وتعاونه مع روسيا وارتباطه بأمريكا في محاولة للقضاء على الثورة وعلى مشروعها الإسلامي وتركيز النظام العلماني هناك، وسحب الكثير من الثوار إلى ليبيا لتنفيذ الخطة الأمريكية هناك.
لقد أثار حدث آيا صوفيا مشاعر المسلمين بأن بدأ البعض يشيد بأردوغان، علما أن هذا القرار جاء لتصحيح قرار جائر، ولم يأت ضمن تطبيق الإسلام. ومحمد الفاتح رحمه الله عندما حول الكنيسة إلى مسجد جاء ضمن تطبيق الإسلام في ظل الخلافة. فإذا لم يجر تطبيق الإسلام كاملا وتزال دساتير الكفر والقوانين المستندة إلى العلمانية وتقطع الحبال مع الدول الكافرة المستعمرة وأحلافها وتغلق قواعدها العسكرية فلن يحصل تغيير جذري في البلاد وإنما هي استدامة للوضع القائم، كما حدث يوم 29/1/2016 عندما صدر قرار بإبطال منع ارتداء اللباس الشرعي في المدارس والجامعات بقرار من الدائرة الثامنة من المحكمة الإدارية بعد رفع دعوى عام 2014، ولكن السفور والتعري استمر واستفحل وصار يتغاضى عنه بدعوى أن لا أحد يتدخل في الآخر حسب مفهوم الحرية الشخصية! في مخالفة صريحة لفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالعقلية العلمانية تريد أن تعايش الكفر مع الإيمان، والتقوى مع الفجور، والعفة مع الفسوق، ودور العبادة مع دور الدعارة، وإشراك العابد لربه مع المنكر لحكم ربه في النظام الديمقراطي حتى لا يسود الحق ولا يزول الباطل.
إن بشارات الرسول ﷺ بمثابة الطلب، أي القيام بالعمل، وهناك البشرى المشهورة "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، فالعاملون المخلصون يعملون لينالوا شرف تحقيقها بإذن الله كما عمل أسلافهم لتحقيق بشارته بفتح القسطنطينية ونالوا شرف فتحها.
رأيك في الموضوع