رغم الحكم عليه بحكم قضائي بات ونهائي في قضية مخلة بالشرف تتعلق بالسطو على مخصصات الرئاسة في قضية القصور الرئاسية، أقام السيسي جنازة عسكرية لمبارك الذي مات الثلاثاء 25/2/2020م، وأعلن الحداد عليه ثلاثة أيام استخفافا بمشاعر أهل مصر الذين ثاروا عليه وأسقطوه بعد أن حكمهم بالحديد والنار طوال ثلاثين عاماً؛ مما يعد مكافأة لمبارك - الطاغية سمسار أمريكا الكبير في المنطقة وخادمها طوال مدة حكمه - من نظام السيسي على خيانته وعمالته، واستخفافاً بمشاعر الأمَّة، وازدراءً لشأنها، وإمعاناً في كسر إرادتها. والكثير من الناس يتساءلون في غرابة شديدة: لماذا يُنعى مبارك رسميا ويشيع عسكريا في حين إن مرسي رحمه الله قُتل ودفن بسرية، وأجبرت أسرته على دفنه في جنح الظلام تحت حراسة أمنية مشددة، لمنع مشاركة أيّ من أنصاره في تشييع جثمانه، بل وشوهت سمعته وهو لم يكن مجرما مثل مبارك؟!
عندما تسمع رئيس وزراء كيان يهود نتنياهو ينعى المقبور حسني مبارك، مشيدا به معتبرا إياه (زعيما قاد شعبه نحو تحقيق السلام، وأنه كان صديقا شخصيا له)، تدرك كم كان مبارك يشكل كنزا استراتيجيا لكيان يهود، وهي المكانة التي ورثها من بعده السيسي الذي استولى على الحكم بانقلاب عسكري ليعيد النظام القديم، ومن ثم يقضي على ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير، وعلى أي أمل لدى الناس لتغيير الواقع الفاسد الذي جثم على صدر مصر لعقود من الزمن.
لقد شهدت سنوات مبارك في الحكم سقوط آلاف الضحايا الأبرياء نتيجة القمع والفساد والإهمال، وانتهت بثورة شعبية جارفة ضد حكمه في 25 كانون الثاني/يناير 2011م، ولقي نحو 1000 من أهل مصر مصرعهم بين يومي 25 كانون الثاني/يناير وحتى 11 شباط/فبراير 2011م اليوم الذي تنحى فيه، نتيجة إصدار مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي، أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين. لقد خلفت أعوام حكم مبارك أكثر من 20 مليون مصري تحت خط الفقر، و8 ملايين يعانون من البطالة، و12 مليوناً يعيشون في العشوائيات، و22 مليوناً من الأميين، علاوة على ما يعادل 800 مليار جنيه من الدين الداخلي والخارجي، و42 مليار جنيه هربها رجال الأعمال من المحسوبين على السلطة إلى خارج البلاد. وبعد أن انتفض الناس ضد نظام مبارك المجرم هذا ودحرجوا رأس النظام، أحيل مبارك للقضاء تحت ضغط الشارع، لكنها كانت محاكمات هزلية برأته من جميع التهم التي وجهت له، باستثناء قضية واحدة هي قضية القصور الرئاسية التي صدر فيها عليه هو ونجلاه حكم بالحبس ثلاث سنوات كان القصد منها إبعادهم ثلاثتهم عن العمل السياسي، فقد كان السيسي يرى في جمال مبارك منافساً قوياً له.
لقد نجحت أمريكا في استنساخ نظام مبارك مرة ثانية من خلال مدير مخابراته عبد الفتاح السيسي، وذلك بعد أن أدركت خطورة اللعب بورقة الإسلام المعتدل، الذي قد تنفلت الأمور من بين يديه لتقع في يد المخلصين من أبناء الأمة، الذين لا يرضون عن نظام الخلافة بديلا، ولا يسكتون عن تآمر الغرب، بل يفضحون مخططاته ويصلون الليل بالنهار لإخراجه من بلاد المسلمين والقضاء على أي نفوذ له.
لقد أراد السيسي من خلال تشييع مبارك في جنازة عسكرية بهذا الشكل أن يؤكد لنفسه وللجميع أن ما حدث في 25 كانون الثاني/يناير لم يكن ثورة، رغم الاعتراف والإقرار الرسمي خلال الأعوام السابقة بالثورة، إلا أنها لم تخرج من قفص الاتهام، لا سيما من جانب أنصار مبارك. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2018م، قال السيسي، في كلمة متلفزة، إن مصر لن تعود لما قبل 7 أو 8 سنوات، واعتبر أن ما حدث في 2011م، هو علاج خاطئ لتشخيص خاطئ. وللعام الثالث على التوالي يحتفل السيسي بعيد الشرطة، وسط تجاهل تام خلال حديثه لثورة 25 يناير، وفي إشارة سلبية عنها، قال: "كانت هناك محاولات للوقيعة بين المصريين سواء الجيش والشرطة أو الجيش والشعب في عام 2011، كان الهدف منها إحداث انقسام واختلاف بين المصريين". هذه هي نظرة السيسي لثورة خلعت طاغية متجبراً أذاق الناس في مصر لباس الجوع والخوف، وهو يحاول منذ استيلائه على السلطة أن يقضي على أي حراك يهدف إلى قلعه من كرسي الحكم من خلال البطش بأي معارضة لجبروته وتسلطه.
إنه وإن كان النظام أيام مبارك قد ارتكب من الجرائم والخيانات ما حفز الناس للاستمرار في التظاهرات حتى تم خلعه، فإن نظام السيسي الحالي قد فاق نظام مبارك في جرائمه وخياناته؛ لقد تعامل نظام السيسي مع مشكلة سد النهضة بطريقة خيانية بانت للقاصي والداني وأدت إلى التفريط في مياه النيل وسوق مصر إلى التصحر والعطش، كما كان التنازل عن تيران وصنافير للسعودية خدمة مجانية قدمها لكيان يهود جعلت من مضيق تيران مياها دولية، وثالثة الأثافي ترسيم الحدود مع قبرص الذي أدى لضياع ثروات هائلة من النفط والغاز في مياه مصر الاقتصادية لصالح اليونان وقبرص وكيان يهود، ناهيك عن إخلاء سيناء من ساكنيها وإفراغها من أي تنمية حقيقية لصالح الكيان الغاصب، ولو عددنا خطايا السيسي ونظامه، لاحتجنا لصفحات كثيرة مليئة بالخزي والعار من قتل وإخفاء قسري واعتقال لخيرة أبناء الأمة، ومن انهيار اقتصادي وديون متراكمة ستدفع ضريبتها الأجيال القادمة...
إذا الدافع اليوم للحراك والعمل على إسقاط نظام السيسي هو أكبر بكثير مما كان عليه أيام المقبور مبارك. لقد رهن السيسي البلد بالكامل لأمريكا ألد أعداء الأمة، وأطلق كلابه لتنهش في جسد الأمة وتتطاول على الإسلام وتهاجم أحكامه من خلال حملة خبيثة على الدين وأفكاره ومفاهيمه ورموزه تحت دعوى تطوير الخطاب الديني!
ولكن ما يجب أن يدركه كل من يسعى بصدق لتغيير الواقع الفاسد، أن أهم شرط من شروط طريقة التغيير هو أن تكون هذه الطريقة شرعية، وبالتالي من شأنها إحداث التغيير المطلوب على وجهه. والأمة بعون الله لن تخضع ولن تركع، وإن كانت حركتها في 25 كانون الثاني/يناير 2011 أسقطت مبارك وبعض حاشيته، رغم عدم وجود منهج واضح لها للتغيير، فإنها في حركتها القادمة لن تكتفي بدحرجة رأس النظام بل ستقتلع النظام برمته بإذن الله، لأنها ستكون أكثر وعيا على إسلامها وعلى طريقة التغيير الصحيحة التي تمكِّن لنظام الإسلام المتمثل في دولة الخلافة على منهاج النبوة، وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: الأستاذ حامد عبد العزيز
رأيك في الموضوع