رغم أن أثر المال السياسي أصبح ماثلا للعيان وخطره بات معلوما للجميع؛ ورغم كثرة الكتابات عن مخاطره، كان لا بد من التذكير والتحذير مرارا وتكرارا من الاستمرار في أخذ هذا المال مهما كانت الظروف لأنه لا زال يفتك بثورة الشام ويشل حركتها رغم مضي سنوات طوال على انطلاقتها؛ فمنذ بداية ثورة الشام المباركة، هذه الثورة اليتيمة التي خرجت على نظام بشار وانطلقت بعفوية وطهر متحدية كل المخاطر ومستعدة لبذل الغالي والنفيس في سبيل التخلص من الظلم والطغيان وإقامة حكم الإسلام العدل، استنفر الغرب كل طاقاته وإمكانياته للقضاء عليها؛ واتبع أساليب عدة لاحتوائها، وكان من أخطر هذه الأساليب على الإطلاق هو أسلوب المال السياسي القذر، الذي كان ولا يزال السبب الرئيس لكل مصائبنا والذي زاد في بلائنا وعقّد قضيتنا وأطال في عمر النظام المجرم ومنحه الوقت لترتيب أوراقه من جديد...
إن هذا الأسلوب ليس جديدا في معركة الحق مع الباطل، فقد استُخدم مع رسول الله e لحرف دعوته واحتوائها؛ فقد عرضت قريش على النبي e المال حيث قال عتبة بن ربيعة للنبي e: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه؛ فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله e يستمع منه قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، قال: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حم تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَبٌ فُصّلَتْ ءايَتُهُ قُرْءانا عَرَبِيّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرا وَنَذِيرا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾، ثم مضى رسول الله فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة منه أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه ثم انتهى رسول الله e إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك، فأبى رسول الله e أن يقبل كل العروض المغرية ولم يقع في فخ الترغيب القاتل، وما ذلك إلا تعليما لنا وتوجيها لمسارنا وتحديدا لما يجب أن تكون عليه مواقفنا في مثل هذه الحال...
وقد قيل قديما إذا أردت أن تفسد ثورة فأغرقها بالمال، وهذا ما حصل، فقد أغرقت ثورة الشام بالمال السياسي المسموم فكانت نتائجه كارثية على مسار الثورة فحرف بوصلتها وبدل وجهتها؛ فبدل أن تتوجه إلى العاصمة دمشق لتسقط النظام في عقر داره توجهت إلى مناطق بعيدة كل البعد عن إسقاط النظام ومعلوم أن إسقاط النظام هو ثابت من ثوابت الثورة، كما أن المال السياسي صادر قرارات الذين تصدروا المشهد العسكري من قيادات الفصائل حتى أصبحت الجبهات تفتح بأمر من الداعمين وتغلق بأمر منهم وسلمت مناطق كثيرة أهمها حلب والغوطة ودرعا فمن يملك المال يملك القرار!
ولا زال المال السياسي المسموم يفتك بجسد الثورة حتى هذه اللحظة، ولا أريد في هذا المقال أن أتوسع في تأثير المال السياسي على معظم مفاصل الحياة بكافة أشكالها السياسية والإعلامية والإغاثية، فدور هذا المال بات معروفا للجميع، فكان لا بد من العمل على استئصال هذه الورم الخبيث وتنقية جسد الثورة من سمومه والاعتماد على الذات بعد الله عز وجل؛ حتى نستطيع أن نسترد قرارنا ونستعيد سيادتنا على أنفسنا ونقرر نحن ما نريد وما يجب أن نفعله...
وقد يقول قائل من أين لنا أن نمول أعمالنا؟ فأقول: إن الذي يدرك جيدا خطر المال السياسي وأنه في النهاية سيقضي على كل التضحيات ويضيع دماء الشهداء ويعيدنا من جديد تحت الظلم والقهر والعبودية؛ لا بد له أن يقطع هذا الحبل الشيطاني، فنتائج التعلق فيه كارثية واضحة للعيان ولا يوجد أي مبرر للتمسك فيه ولا بد له أن يعتصم بحبل الله ولا يخشى على رزقه لأن الرزق بيد الله سبحانه، قال رسول الله e «جعل رزقي تحت ظل رمحي»، فمن يعتصم بحبل الله بصدق سيكفيه الله سبحانه وتعالى من فضله وسينصره على أعدائه، كما أن أهل الخير كثر وعندما يرون صدق توجهنا واعتمادنا على الله عز وجل ثم أنفسنا لا شك أنهم سيبذلون لنا الغالي والنفيس، والأمثلة على ذلك كثيرة وليست آخرها التبرعات السخية التي قدمها أهل الشام، حتى الأطفال تبرعوا بما يملكون من ذهب يزين آذانهم. فالبدائل للمال السياسي المسموم متوفرة؛ فالغنائم كثيرة ولله الحمد وأهل الخير من المسلمين في الخارج والداخل كثر ولله الحمد، ولا ينقصنا سوى القرار الصحيح حتى نتحرر من هذا القيد الذي فرضته علينا الدول الداعمة، وحتى نتخلص من مكر أعدائنا...
قال تعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ_ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾.
بقلم: الأستاذ أحمد عبد الوهاب
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع