أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطابٍ رسمي له من البيت الأبيض الأربعاء الفائت الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لكيان يهود، وقال: "قرّرت أنّ الوقت قد حان أنْ نعلن رسميا الاعتراف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل)"، وأضاف: "إنّ الرؤساء الأمريكيين السابقين جعلوا من هذا الموضوع وعداً انتخابيا لكنّهم لم ينفذوه،وها أنا أنفذه، وأعتقد أنّه إجراء لمصلحة الولايات المتحدة، ولتحقيق السلام بين (الإسرائيليين) والفلسطينيين"، واعتبر ترامب أنّ هذه الخطوة قد تأخّرت كثيراً، وقال إنّ "(إسرائيل) دولة ذات سيادة ومن حقها أن تقرر ما هي عاصمتها"، وتأكيداً على هذه الخطوة أعلن ترامب أنّه وجّه أوامره إلى وزارة الخارجية الأمريكية للبدء في نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وأنّها "عملية ستبدأ فوراً، حيث سيبدأ المهندسون العمل على بناء سفارة جديدة".
وأشار ترامب في خطابه إلى أنّ الكونغرس كان قد اعتمد في العام 1995 قانوناً لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، لكن الرؤساء الأمريكيين السابقين دأبوا على تأجيل تنفيذ هذا القانون، وأنّه "كانت تنقصهم الشجاعة لاتخاذ هذا القرار، ربما بسبب المعطيات المتاحة آنذاك"، واعتبر أنّ إعلانه هذا "لا يعكس تغييراً في الالتزام الأمريكي بتسهيل اتفاقية سلام دائمة بين الفلسطينيين و(الإسرائيليين)، وأنّ الولايات المتحدة لا تتخذ أي خطوة لها علاقة بالوضع النهائي بما فيها حدود السيادة (الإسرائيلية)".
لعلّ أّولى الدلالات المُستشفّة من خطاب ترامب هذا تتمثّل في اعتبار أنّ القدس عاصمة لكيان يهود هي مسألة قديمة موجودة لدى جميع الإدارات الأمريكية السابقة، فهي ليست وليدة اللحظة، واعتباره أنّ هذه الخطوة تأخّرت كثيراً هو دليل على كونها كانت مُدرجة على أجندة الإدارات السابقة، ومدروسة ومُقرّرة لتلك الإدارات منذ العام 1995 عندما اعتمدها الكونغرس الأمريكي في ذلك الوقت، ولكنّ الظروف لم تكن مهيأة للإعلان عنها آنذاك، وأنّه آن الأوان للإعلان عنها في هذه الأيام.
وثانية هذه الدلالات أنّ أمريكا بلغت بها العنجهية مبلغاً أصبحت معها تتخذ قراراتها دون الالتفات إلى الالتزامات الدولية، ودون الرجوع إلى قرارات الأمم المتحدة.
وثالثتها أنّ أمريكا لم تعُد تُراعي في قراراتها الخطيرة مواقف الدول الكبرى، لا سيما الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ولم تأبه بمراعاة الدول التابعة والتي تدور في الفلك، حتى لو أصابها الحرج ولحق بها العنت بسبب هذه القرارات، بل إنّها ضربت عرض الحائط بما يعتبر بمثابة الإجماع الدولي الذي لم يعترف بالقدس عاصمة لكيان يهود، واعتبرها أراضيَ متنازعاً عليها، شأنها في ذلك شأن الأراضي المحتلة عام 1967، وتُحل بالتفاوض ووفقاً للقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة.
ورابعتها أنّ إدارة ترامب وبالرغم من كونها قد اعترفت بالقدس عاصمة لكيان يهود إلا أنّها تركت الباب مفتوحاً لاستئناف المفاوضات مُستقبلاً بعد انحسار موجة الحماس الجماهيريالمُعارض لقرار ترامب هذا، وبعد تنفيس الغضب الشعبي العارم بسببه، ويُفهم ذلك من عدم تحديد القرار لحدود مدينة القدس وتركها عائمة، فلم تُستخدم مثلاً صيغة "القدس عاصمة موحدة لـ(إسرائيل) فقط"، وهو ما يعني إمكانية عودة التفاوض برعاية أمريكية على القدس بين الطرفين المتفاوضين، وما يؤكّد هذا الفهم توضيح الناطقة باسم الإدارة الأمريكية هالي التي قالت في حديث لشبكة CNN: "لم نقل شيئا على صلة بأي جزء من القدس وإنّ قضية تحديد هوية أجزاء القدس تعود للفلسطينيين و(الإسرائيليين)" وأضافت: "الأمر متروك لقرار الطرفين وليس للولايات المتحدة"، وأوضحت أنّ: "خطوة الاعتراف بالقدس كعاصمة لـ(إسرائيل) كانت منتظرة من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء منذ سنوات طويلة".
إنّ اتخاذ ترامب لقراره هذا لم يكن مُفاجئاً لقيادات الدول العربية ولا للسلطة الفلسطينية، فهو قد أطلعهم على القرار قبل اتخاذه، وهم يعلمون به قبل صدوره، لأنّ الإدارة الأمريكية كلّفتهم بتسهيل تنفيذه، وهم مجرد أجراء عملاء وأدوات لتنفيذ التعليمات الأمريكية، وما يظهر في وسائل إعلامهم من اعتراضات على القرار ما هو إلا تمثيلية رديئة الإخراج، فالتطبيع مع كيان يهود جارٍ على قدم وساق، وعبارات الشجب والاستنكار الصادرة عن أبواق الحكام أصبحت أسطوانة مشروخة، واجتماعات منظمة المؤتمر الإسلامي في تركيا ومجلس الجامعة العربية في القاهرة باتت عديمة الجدوى وعقيمة النتائج، وخطوط أردوغان الحمراء المعهودة صارت مُتغيرة الألوان كما شاهدناها في مذابح حلب وأخواتها، وكما أبصرناها في مؤتمرات التآمر في أستانة وسوتشي، وتحذيرات حكام المسلمين الآخرين لم تعد سوى جعجعات بلا طحن، وسلطة محمود عباس لا تملك حتى مجرد إيقاف التنسيق الأمني مع كيان يهود، فهي أعجز من العجز نفسه، وما يظهر من تصريحات وعنتريات زائفة لهؤلاء الزعماء المنبطحين لن تطول كثيراً، ثمّ لا تلبث أنْ يتم لعقها عندما تشرع أمريكا بتنفيذ قرارها ذاك منتصف العام المقبل.
لقد سئمت الشعوب المسلمة تلك الأكاذيب المُتكرّرة لهؤلاء الحكام الأنذال الجبناء، ولم تعد أقوالهم الممجوجة تنطلي على الأمّة، وأهل فلسطين وسائر شعوب المسلمين، لم يعد ينطلي عليهم مثل هذا النمط من التصريحات الفارغة من أي مضمون، يُطلقها من هم ليسوا بأهل لتحمل مسؤولية الدفاع عن مقدسات الأمة وأراضيها وحقوقها، فتحرير فلسطين يحتاج إلى تحريك الجيوش حصراً، ولا يحتاج إلى تجديد المفاوضات العبثية، وتحريرها لا يتطلب إلا اتخاذ قرار الزحف الحاسم لتخليص فلسطين من مُغتصبيها، وكنس النفوذ الأجنبي من جميع البلاد الإسلامية، وتطهيرها من كل آثار الاستعمار.
وهذا شرف لا يقدر على نيله العملاء والأذناب والأدوات، إنّه بحاجة إلى قيادات مبدئية واعية مُخلصة، تتبنّى مشروع الإسلام العظيم، الذي لا يجسده بشكلٍ حقيقي إلا دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي يجب على المسلمين جميعا أن يرصوا صفوفهم خلف حزب التحرير لإقامتها.
رأيك في الموضوع