منذ أن سقطت دولة الخلافة في 3/3/1924م على يد عميل الإنجليز المجرم مصطفى كمال، والأمة الإسلامية تعيش أصعب أيامها، حيث استبيحت أعراضها وسفكت دماؤها ونهبت ثرواتها وهُجِّر أبناؤها وعاشت في فقر عام كأنها خدم عند عملاء الغرب الكافر، قطعت أوصال بلادها فأصبحت غريبة في أرضها تنتظر الإذن للتنقل، وتحولت جيوشها عن الجهاد في سبيل الله وفتح البلاد ونشر الإسلام إلى حراسة عروش الطغاة الهاوية وكراسي العملاء المعوجة، استبعد شرع ربها عن الحياة وحلت محله شرائع البشر؛ فغرقت في ظلمات الجاهلية بعد أن كانت تعيش في نور الإسلام العظيم، وعاشت الأمة الإسلامية في ضنك العيش وشقاء الحال، وأصبحت أمة محمد e التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس كالأيتام على موائد اللئام، تداعى عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، ولا زالت الأمة الإسلامية تدفع ثمن سكوتها عن هذه الجريمة النكراء غاليا من دماء أبنائها حتى يومنا هذا.
لا شك أن لسقوط الخلافة وغياب الراعي عن الرعية الأثر العظيم فيما آلت إليه الأمور، كيف لا وهو مسؤول عن رعيته، يدافع عنها ضد أعدائها ويسهر على راحتها وتأمين حاجاتها الأساسية من مطعم وملبس ومسكن وأمن وتطبيب وتعليم فضلاً عن تأمين حاجاتها الكمالية ورعاية شؤونها رعاية تؤمن لها رفاهية العيش والسعادة في الدنيا والآخرة من خلال تطبيق شرع الله عز وجل.
وإن حال أمتنا اليوم بشكل عام وحال ثورة الشام بشكل خاص تذكرنا بحال رسول الله e وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين عندما كانت أنظمة الكفر هي السائدة في مكة، فقد تعرضوا لما تتعرض له هذه الثورة اليتيمة من قتل وتجويع وتهجير وتعذيب، ولا غرابة في ذلك فملة الكفر واحدة وهدفها واحد؛ وإن اختلفت الأساليب والأدوات وتنوعت الخطط والمؤامرات، إلا أن الواقع الأليم الذي عاشه رسول الله e وصحابته الكرام لم يثنه عن العمل الجاد للخروج منه؛ بل وتغييره تغييرا جذريا وقلبه رأسا على عقب، فقد أدرك e أن لا حل لهذه المعاناة حلا جذريا إلا بدولة تحكم بشرع الله وإمام يرعى شؤون المسلمين بما يرضي الله، قال رسول الله e «إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به»، كما أدرك أن شرع الله سبحانه وتعالى لن يطبق كما ينبغي إلا في ظلها؛ وهذا يفسر نزول غالبية الإسلام العظمى في المدينة المنورة بعد أن هاجر إليها رسول الله e وأقام دولته العتيدة،
وإذا ما قارنا مواقف الرسول الأكرم صلوات ربي وسلامه عليه بمواقف بعض القيادات اليوم نجد اختلافا كليا رغم تشابه الظروف والعروض إلى حد التطابق، فقد كان رسول الله e مستضعفا في قومه هو وجماعة المسلمين؛ تآمر عليه القريب والبعيد؛ قتل بعض صحابته أمام ناظريه، حوصر هو وأصحابه في شعب أبي طالب ثلاث سنين فأكلوا ورق الشجر وبات يسمع بكاء الصبيان من خارج الشعب من ألم الجوع، نزح جمع من الصحابة إلى الحبشة، وعذب آخرون حتى الموت، هكذا كانت حال رسول الله e وهكذا كانت ظروفه فكيف كانت مواقفه؟.
بعد أن رأت قريش ثبات رسول الله e على ما أنزل الله إليه من الحق عرضت عليه قيادة حكومة وحدة وطنية برئاسته، كما عرضت عليه المال السياسي القذر مقابل أن يخضع لأنظمتهم الوضعية ويكف عن مهاجمتها ومحاولة إسقاطها، فقد جاء في الأحاديث قول عتبة بن ربيعة (يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه)، هكذا كانت العروض فماذا كان رد رسول الله e وماذا كان موقفه؟ لا شك أن رده كان واضحا وضوح الشمس في كبد السماء ﴿حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ...﴾. حتى وصل إلى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾، وعلى هذا نجد أن رسول الله e لم يتنازل عن حكم واحد من أحكام الإسلام رغم كل الضغوطات من قتل وتعذيب وتجويع وتشريد، لم يهادن ولم يجامل ولم يداهن ولم يتملق ولم يُحابِ؛ بل كان ثابتا ثبوت الجبال الراسيات؛ ماضيا على أمر الله حتى أظهره الله على من عاداه، والأسئلة التي تطرح نفسها: لماذا لم يقبل رسول الله eما عرضت عليه قريش من الحكم ومن ثم يسيطر على الدولة ويطبق شرع الله؟ بل لماذا لم يقبل رسول الله e ما عرضت عليه قبيلة بني عامر بن صعصعة من نصرته وإقامة دولته مقابل أن يكون لهم الأمر من بعده؟ ولماذا لم يقبل رسول الله e ما عرضت عليه قبيلة بني شيبان من نصرته من جانب العرب دون الفرس؟ مع أن كل ذلك ينهي عذابات المسلمين ويزيل آلامهم؟ إن كل هذه الطروحات جوبهت بالرفض من قِبَل مَنْ لا ينطق عن الهوى e، أما قيادات اليوم فقد قبلوا بهيئة الحكم الانتقالي على أساس عقيدة فصل الإسلام عن الدولة والمجتمع، وقبلوا المال السياسي القذر الذي قيدهم وصادر قراراتهم، وهادنوا أعداء الله وجاملوهم وداهنوهم بل وتملقوا لهم، والتزموا معاييرهم حتى تحولت أستانة إلى غرفة عمليات مشتركة يتقاسم فيها المفاوضون الأدوار، كل ذلك تحت ذرائع شتى لم تشبع جائعا ولم تؤمّن خائفا، صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "نحن نقوم عن طريق مفاوضات أستانة بتوطيد نظام وقف إطلاق النار، وتحديد المعايير التي يجب أن يلتزم بها كل من لا يريد أن ينتمي إلى الإرهابيين، فيما نعد مع إيران وتركيا آليات مشتركة تتيح فرصة لرصد حالات انتهاك وقف إطلاق النار والرد عليها والتأثير على مخالفيها" بعد كل ذلك يتساءل الكثيرون لماذا تأخر النصر عن ثورة الشام؟!
بقلم: أحمد عبد الوهاب*
* رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع