بعدما تمكنت أمريكا من غزو العراق، وبعد أن حقق بوش الأب غلبته في الخليج العربي مطلع التسعينات من القرن الفائت، ازدادت عنجهيتها، وبدأ شعور "التألّه" يزداد لدى الكاوبوي الأمريكي، بلا منازع. ولذلك صارت أمريكا أكثر جدية في العمل على محو معالم "الاستعمار القديم" والتحول نحو استعمار جديد بخطوط جديدة، وبولاءات سياسية خالصة لها.
ويكشف الشأن الجاري بما فيه من الأحداث الملتهبة في المنطقة عن شواهد ناطقة بتفعيل استراتيجية أمريكية في هذا الاتجاه، وقد تضافرت التصريحات الصادرة عن مسؤولين أمريكيين وإقليميين حول سقوط اتفاقية "سايكس بيكو": منها التصريح الجديد للرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية "CIA"، مايكل هايدن، الذي قال فيه إن الاتفاقيات العالمية التي عقدت بعد الحرب العالمية الثانية بدأت تنهار، ما سيغير حدود بعض الدول في الشرق الأوسط (سي ان ان في 26/2/2016)، وأضاف "أن سوريا لم تعد موجودة، والعراق لم يعد موجودا، ولن يعود كلاهما أبدا، ولبنان يفقد الترابط وليبيا ذهبت منذ مدة".
هذا المقال يلقي الضوء على هذه المؤامرة السياسية الكبيرة على الأمة الإسلامية والتي تتسارع خطواتها، ويشارك في تنفيذها حكام الدول الإقليمية، والمضللون من التنظيمات والفصائل (الثورية!)، وتنفخ تحت نارها قوى استعمارية عالمية، تستغل فيها أمريكا شهيتها الاستعمارية، مثل روسيا:
إذ مع بداية تحول ميزان القوى العالمية عن أوروبا نحو القوة الأمريكية المتفردة، كانت أمريكا - منذ الثمانينات من القرن الماضي - تُبلور رؤية فكرية (بحثية) – بداية - عبر الدراسات والتقارير السياسية الصادرة عمّا تسمى "خزانات الأفكار" لديها، تقوم على محو خطوط سايكس بيكو - أوروبية الرسم والمصالح - ثم على ترسيم جديد للحدود السياسية في المنطقة، تحقق مصالح أمريكا وتُنفذ رؤيتها السياسية "للشرق الأوسط الجديد". ثم تجذّر الحديث في دوائر صنع القرار الأمريكي بعدما تبنت تلك الرؤى البحثية: وقد صدرت تلك الرؤية في عدد من الأوراق الأمريكية - ذكرتها في مقال سابق في 1/9/2015 - وقد بُنيت كلّها على رؤية تفتيت على أسس طائفية وقبلية ومذهبية، وضعها الجنرال الأمريكي رالف بيترز، مستندا إلى فكرة ابتدعها المستشرق الأمريكي (اليهودي) برنارد لويس.
إن دوافع أمريكا لتنفيذ هذا المشروع الطائفي هي استعمارية وسياسية وفكرية، إذ فيه تحقيق الهيمنة الأمريكية، وتفتيت المسلمين وزرع الألغام الطائفية أمام مشروع وحدتهم السياسية في دولة الخلافة الجامعة، وفيه تحد فكري لمفهوم الوحدة العقدية: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾، ولذلك لا بد للمسلمين من التنبه لخطورة هذا المشروع الأمريكي، ولا بد لهم من الوعي على الأعمال العسكرية والسياسية التي تدفعها أمريكا لتنفيذه، لئلا يكونوا شركاء في هذه الجريمة الكبيرة، التي يمكن وصفها بجريمة القرن الحالي، وهي تصل إلى مستوى جريمة إلغاء الخلافة وتقسيم سايكس بيكو في القرن الماضي.
هذا المشروع الأمريكي الخطير يسير اليوم عبر مسار القوة الناعمة بالتوازي مع القوة الصلبة، وحيث إن الحزب الحاكم حاليا في أمريكا (الديمقراطيين) أمْيَلُ في التنفيذ إلى استخدام القوة الناعمة: فهو يعمل على تفعيل المؤتمرات الدولية (مثل مؤتمرات جنيف) والمفاوضات السياسية، ثم يدعم ذلك بالأعمال العسكرية للأطراف الأخرى في المنطقة. أمّا إذا تمخضت الانتخابات الأمريكية القادمة عن تغيير في الحزب الحاكم نحو الجمهوريين، فمن الممكن سياسيا أن تنخرط أمريكا بالقوة العسكرية لتنفيذ هذا المشروع.
إن إدارة أوباما (الناعمة) قد استغلت القوى الإقليمية الموالية لها، فحركت التدخل العسكري السعودي (الخليجي) في اليمن ضد الحوثيين مما حمل نكهة طائفية خالصة، وفتحت الباب للتدخل العسكري التركي ضد الأكراد في شمال سوريا مما حمل نكهة قومية صارخة، وشكّلت التحالف السعودي (الإسلامي!) لدعوى محاربة الإرهاب، المعرّف أمريكياً بأنه الإسلام السياسي الهادف للتحرر وتحكيم الشريعة. أضف إلى ذلك تحركات إيران وحزبها في لبنان وأفراخها في العراق، تجد أن كل ذلك يسير نحو ترسيخ الطائفية والمذهبية.
إن الشواهد على الأرض تكشف عن بطلان الخطاب السياسي لكل كيان أو تنظيم يستند للمذهبية والطائفية أو القومية ولو حمل شعارات الثورة والتحرر أو دعم الثوار، وهي تُعري دعوات الدول الإقليمية في حروبها وما تريقه من دماء على مذبح "حدود الدم". وهو ما يبرق الرسائل السياسية التالية للفصائل الإسلامية في الشام:
- في اتجاه الخطاب الفكري: إذ يتوجب عليها أن تُنقّي خطابها من أي شائبة طائفية أو مذهبية، وأن تتحرر من أي ارتباط سعودي-خليجي أو تركي، يعمل على ترسيخ تلك الأسس الباطلة.
- في الاتجاه العسكري: إذ يتوجب عليها أن تحذر من المعارك التي تريدها الدول الإقليمية وتحركها أمريكا، من أجل إعادة التقسيم، وأن تحذر من تكوين وقائع جديدة على الأرض تمكّن أمريكا من فرض تلك الخطوط تحت سياسة الأمر الواقع.
- في الاتجاه السياسي، إذ يتوجب عليها أن تحذر من أساليب القوة الأمريكية الناعمة تماما كما تحذر من الأعمال العسكرية، لأن أمريكا تحتاج تلك الأساليب عند وضع الاتفاقيات البديلة على اتفاقية سايكس بيكو البائدة.
إن الثورة والتحرر من هيمنة أمريكا - والدول الاستعمارية - يوجب على المخلصين في قوى الأمة الحية أن يستحضروا دائما الغايات السياسية الحيوية لمشروع الأمة المناقض لمشروع حدود الدم الأمريكي: وهي التحرر والوحدة السياسية في ظل تحكيم الإسلام. وإن أي سعي لتمزيق البلاد الإسلامية تحت عناوين المصلحية والمرحلية والديمقراطية ليس إلا مشاركة لأمريكا في جريمة القرن.
رأيك في الموضوع