الكشف عن أشرطة التسجيل التي أضاءت على موضوع التعذيب في السجون اللبنانية بحق السجناء المحسوبين على التيار الإسلامي لم تنته تداعياته بعد. ففي البداية حاول المعنيون في السلطة الحاكمة حصر الموضوع وكأنه عمل فردي من قِبل بعض الأمنيين وذلك عبر تحويله إلى ملف قضائي بحت. إلا أن الشارع لم يتقبل تلك المحاولة فأخذ بالتصعيد وكانت الدعوات تطلق لاستقالة وزير الداخلية بوصفه مسؤولا عما حصل وأنه كذب في مؤتمر صحفي سابق حين أنكر حصول تعذيب للسجناء وأن عملية نقل المساجين من مبنى إلى آخر كانت نظيفة.
ففي حديث صحفي للناطق باسم "لجنة أهالي الموقوفين الإسلاميين في سجن رومية" الدكتور محمد إبراهيم أكد أن أهالي الموقوفين مستمرون بتحركاتهم حتى استقالة وزير الداخلية نهاد المشنوق. وأن ما جرى كان معروفا لدى الأهالي وتم إنكاره من قبل السلطة. وحمّل الدكتور إبراهيم الحكومة المسؤولية عن الذي جرى. كما أصدر حزب التحرير / ولاية لبنان نشرة بعنوان "الاستهانة بالمسلمين تجاوزت كلّ الحدود في لبنانوبات لحمهم وكرامتهم أرخص ما في البلاد" حذّر فيها الحكومة وتيار المستقبل من خداع الناسعبر محاولتهم "الالتفاف على القضية، وجعلها قضية خطأ فردي من قبل عناصر أمنية متفلّتة" وقال أيضا إن "القاصي والداني من أهل هذا البلد، بل من أهل البلاد الأخرى والجمعيات الحقوقية الدولية والإعلام الدولي يعلمون أنّ سياسة التعذيب في هذا البلد هي سياسة منهجية تتمّ تحت أعين السلطة ورجالاتها". كما وصفت هيئة علماء المسلمين في لبنان سجن رومية الذي أسمته "أبو غريب لبنان" بأنه شبيه بسجن "غوانتانامو" الأمريكي، وحذرت الهيئة من "تمييع القضية وتهريب مرتكبيها أو محاسبة الصغار والتغاضي عن المحرضين ومن وراءهم".
وعلى أثر التصعيد الذي حصل وكون كافة المعنيين بالملف، من الجهاز الأمني الذي قام بعملية التعذيب وحتى رأس الحكومة، ينتمون لنفس الشارع الذي ينتمي إليه التيار الإسلامي تولد عن ذلك عاصفة سياسية بين هذا الشارع وقيادته. وفي محاولة لتدارك مخاطر تلك العاصفة أوعز زعيم تيار المستقبل سعد الحريري مندوبا عنه، نادر الحريري، لزيارة وزير الداخلية نهاد المشنوق كإشارة لدعم التيار قرارات الأخير، وكذلك أوعز سعد الحريري لوزير العدل أشرف ريفي بزيارة المشنوق وذلك لإبعاد الشبهات عن وجود انقسام داخل التيار بعد أن انتشر بين الناس أن أشرف ريفي كان وراء تسريب أشرطة التعذيب. وفي المؤتمر الصحفي المشترك بين ريفي والمشنوق اتهم الأول "حزب الله" بالضلوع خلف التسريب واستبعد النائب في تيار المستقبل أمين وهبي أن "يؤثر هذا الاتهام على مسار الحوار بين تيار المستقبل والحزب"، وأكدوهبي أن "حاجة الحوار ومسبباته وضمانات استمراره أكبر من أي سجال سياسي". كما قال رئيس مجلس الوزراء تمام سلام في حفل إفطار: "هنيئا لنا في لبنان في أياد مسؤولة في يدي وزيري الداخلية والعدل" وهذا دلالة على أن كافة المسؤولين المعنيين هم في خندق واحد.
من الواضح أن ملف التعذيب في السجون اللبنانية ليس جديدا وهو أمر معروف وقديم فالمنطقة كلها شهدت وما زالت تشهد ممارسة ممنهجة تقتص من كرامة الإنسان وخصوصا الأفراد الذين ينتمون إلى التيار الإسلامي. فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر انتهج حكام المسلمين هذا النهج تحت حجة مكافحة الإرهاب وأصبحوا يعتقلون على الشبهة ويباشرون في عمليات التعذيب لانتزاع اعترافات كاذبة وكل هذا كان بعلم بل بأمر من النظام الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية فقد كشف تقرير لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي عن التعذيب الذي مارسته وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" بأن التوزيع الجغرافي لأماكن التعذيب والاحتجاز كان دائماً يقع خارج رقابة السلطات التنفيذية الأمريكية وتغاضى التقرير عن تسمية الدول التي وقعت فيها تلك الممارسات. إلا أن تقارير أخرى تؤكد وجود معتقلات سرية لـ"لسي آي إيه" في عدد لا بأس به من الدول العربية.
مع أنه تم تخفيف الاعتقالات تحت حجة "مكافحة الإرهاب" لبرهة من الزمن في فترة مجيء أوباما لسدة الحكم وحتى اندلاع الثورات، إلا أن وتيرة الاعتقالات في لبنان قد ازدادت، خصوصا بعد اندلاع الثورة في سوريا، بشكل قياسي. وكانت معظمها تتم تحت ما يسمى بـ"وثائق الاتصال" وهي عبارة عن معلومة يقدمها مخبر لجهاز أمني فيقوم هذا الجهاز على أثرها باعتقال المشتبه به من دون الرجوع للقضاء وهذه الطريقة في الاعتقال تخالف القانون باعتراف جميع السياسيين والقانونيين. وكانت معظم الاعتقالات تطال فئة معينة من الناس وهي كل من ناصر الثورة في سوريا.
ما تم الكشف عنه في لبنان يعد "رأس جبل الجليد" وما خفي أعظم. والأمور مرشحة للتفاعل. فالمنحى الذي اتخذه هذا الملف محصور بطائفة واحدة وهي الطائفة السنيّة والخاسر الأكبر فيه هو تيار المستقبل الذي يدعي أنه الممثل الوحيد لتلك الطائفة والذي هو الآن في مرحلة جديدة بعد أن شكّل حكومة مع خصمه السياسي "حزب الله" وبعد أن بدأ مرحلة الحوار معه في ظل عدم تقديم "حزب الله" أي تنازل بأي ملف. من هنا بدأ الشرخ يحصل بين الطائفة السنيّة التي معظمها يناصر الثورة في سوريا وتيار المستقبل الذي يجلس ويتحاور مع من يقتل المسلمين في سوريا نصرةً للنظام البعثي. وما قضية أشرطة التعذيب سوى حلقة جديدة تزيد في هذا الشرخ لتجعل الحالة العامة عند مسلمي لبنان هي "الكفر بالكيان اللبناني" والنظر إلى ما هو أبعد منه.
بقلم: عبد اللطيف الداعوق - لبنان
رأيك في الموضوع