ترأّس شيخ الأزهر اجتماعًا لمجلس حكماء المسلمين في البحرين. وأشاد وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف في البحرين بالجهود التي يقوم بها مجلس حكماء المسلمين في تعزيز الوسطية ونشر فكر الإسلام السمح وإقامة حوار بنّاء نابع من قيم الإسلام مع كافّة الحضارات الموجودة. وقال: "نتمنّى التوفيق لكلّ الجهود التي تصبّ في تعزيز الوسطية والتسامح ونبذ العنف والتطرّف".
منذ أن احتدم الصراع الفكري بين الإسلام والحضارة الغربية المعاصرة ومثَّلَ الإسلامُ - من حيث هو فكر سياسي - خطرًا على نفوذ الدول الكبرى في العالم الإسلامي عمدت هذه الدول وأدواتها في العالم الإسلامي إلى أسلوب ماكر في مواجهة الفكر الإسلامي المتنامي، ألا وهو الترويج لمصطلحات ملتبسة حمّالة وجوهٍ ومعانٍ، لتكون مدخلًا لأفكار الغرب ومشاريعه السياسية من جهة، وسلاحًا في وجه الأفكار الإسلامية التي تعمل على نشرها الحركات الإسلامية العاملة لاستئناف الحياة الإسلامية من جهة أخرى. ويمثّل الخبر أعلاه مثالًا واضحًا على هذا الأسلوب بما حُشد فيه من مصطلحات: سماحة الإسلام، وحوار الحضارات، والوسطية، ونبذ العنف، ونبذ التطرّف.
أمّا "سماحة الإسلام"، وما يقابلها من العنف، فهما مصطلحان يستخدمان بهدف ثَنيِ المسلمين عن مواجهة عدوان خصومهم، والركون إلى الظلم الذي يمارَس عليهم، فلا يحاربوا غازيًا، ولا يكافحوا ظالـمًا، ولا ينتصفوا من مُعتدٍ عليهم. نعم إنّ الإسلام تسامَح مع أهل الأديان الذين عاشوا في دار الإسلام، فلم يجبرهم على ترك أديانهم ولا مَنَعَهم من ممارسة شعائرهم وترَكَهم وما يعبدون وترك لهم إدارة شؤون زواجهم وأُسَرِهم ومواريثهم، وفوق هذا كله أمر برعاية شؤونهم سواء بسواء مع المسلمين، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم من الإنصاف والانتصاف، ما داموا خاضعين للدولة ونظامها، إلّا أنّ السماحة ليست هي الحاكمة على جميع تصرفات المسلمين وسياسات دولتهم. ففي مواقف معيّنة أمر الإسلام باتّخاذ تدابير صارمة لا مجال للتسامح فيها. فلا تسامح مع الغزاة، ولا مع المعتدين، ولا مع الظالم الذي يظلم رعيّته ومَن هُم تحت سلطانه. فالله تعالى الذي قال: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ وقال: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، هو الذي قال أيضًا: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾، وقال: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ﴾، وقال: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾.
وعليه فإنّ التركيز على سماحة الإسلام ونبذ العنف دون غيرهما من المفاهيم الإسلامية إنّما يرمي إلى إفقاد كيان الأمّة مناعته وقدرته على المواجهة ومقارعة أعدائه، وما هو بالبريء بحال من الأحوال.
وأمّا "حوار الحضارات"، فهو مصطلح ملتبس مضلِّل، يراد منه أن يتخّلى المسلمون عن سنّة الصراع الحضاري الذي جعله الله تعالى مهمّة أمّة الإسلام في هذه الدنيا. فمن المعلوم لدى الجميع أنّ الحضارة هي طريقة عيش المجتمع. فبقدر ما في الأرض من مجتمعات استقرّت على طريقة معينة في العيش بقدر ما فيه من حضارات. وحين ينزل الله تعالى الإسلام محدِّدًا للإنسان وجهة نظره في الحياة ومفصِّلًا له شريعة تنظِّم كلّ أفعاله وعلاقاته، وبالتالي هاديًا الناس إلى طريقة العيش المثلى التي ترتقي بهم وتحقِّق لهم السعادة في الدارين، فهذا يعني أنّ الإسلام شكّل الحضارة الإنسانية المتكاملة، المستغنية عن كلّ ما سواها من طرائق العيش، أي عن كلّ حضارة من الحضارات. وأوجب على المسلمين أن يخوضوا صراعًا حضاريًّا لا هوادة فيه تكون غايته إخراج الناس من ظلمات الحضارات إلى نور حضارة الإسلام الشاملة. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾، وقال: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾.
أمّا أطروحة "حوار الحضارات" فإنّ الغاية الحقيقية منها حين تروَّج في بلاد المسلمين هي تجريد الإسلام من خصوصيته ونكران تكامله، وذلك من خلال الزعم أنّ انفتاحه على سائر الحضارات من شأنه أن يثريه بمزيد من العناصر الحضارية، وأنّ هذا الانفتاح لا يعني التنازل عن ثوابت الإسلام. وهذا منتهى التضليل والتحريف. فالاقتباس الحضاري حين استباحه المسلمون أفقدهم هويّتهم الحضارية، وأخرجهم من طريقة عيشهم، ليعيشوا على هامش الحضارة الغربية، فباتوا لا هم يعيشون حياة إسلامية ولا هم يعيشون الحياة الغربية. فالحضارة هي مجموعة المفاهيم عن الحياة. والمجتمع الذي يعتنق مجموعة من المفاهيم عن الحياة يكون قد اختار لنفسه حضارة تفارق ما سواها من الحضارات، فما بالكم بحضارة تأسّست على مفاهيم شاملة مكتملة نزلت من عند الله تعالى. والساسة الغربيون يعرفون هذه الحقيقة حقّ المعرفة، وإن تسويقهم لفكرة التبادل الحضاري ما هو إلا خدعة يستدرجون بها المسلمين إلى الانسلاخ من حضارتهم. يقول المستشرق الأمريكي المعاصر والشهير برنارد لويس: »عندما تصطدم حضارتان تسيطر إحداهما وتتحطّم الأخرى. قد ينبري المثاليّون والمفكّرون فيتحدّثون بطلاقة وسهولة عن تزاوج بين أحسن العناصر من الحضارتين، إلّا أنّ النتيجة العادية في هذا التلاقي هي تعايش بين أسوأ العناصر من الاثنتين«.
وأما "الوسطية" - ويقابلونها بمصطلح "التطرّف" - فأيضًا مصطلحان مستجدّان اعتُمدا لترويج قراءة جديدة للإسلام على ضوء الحضارة الغربية المعاصرة، فنسخة (الإسلام الجديد) التي تتعايش مع الحضارة الغربية ومفاهيمها وتتخلّى عن جملة من الثوابت الشرعية وتعتمد العقلية الغربية (البراغماتية) في إنتاج الأحكام الشرعية والتشريعات اصطُلح على تسميتها "بالإسلام الوسطي". وقد زعم مبتكرو هذه النسخة الجديدة من (الإسلام) أنّهم استمدوا مصطلحهم من قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾! والمدقّق قليلًا في هذه الآية يجد أن عبارة (وسطًا) لم ترد في الآية وصفًا للإسلام، وإنّما هي وصف للأمّة الإسلامية بأنّها الأمّة الوسط، أي الأمّة المتّصفة بالعدالة، عَنْ مُجَاهِدٍ قال: "﴿جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أَيْ «عُدُولًا» ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾" عَلَى الْأُمَمِ كُلِّهَا: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ".
بمثل هذه الأساليب الماكرة أنزل الله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾.
رأيك في الموضوع