قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185]
رمضان خير الشهور، فيه ليلة هي خير الليالي، نزل فيها القرآن؛ وهو خير الكتب، على المصطفى؛ وهو خير الرسل، في قرنٍ هو خير القرون، على أمةٍ هي خير الأمم، إنها أمة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
كل هذه الخيرات متحققة بلا شرط؛ إلا خيرية الأمة؛ فإنها مربوطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحمل الإسلام لكافة الناس، لذلك كان رمضان شهراً مناسباً لتذكير الأمة بخيريتها واستحقاقها قيادة الأمم بامتياز.
رمضان شهر الصيام، إنه شهر القرب من الله، والأوبة إليه، شهر تغسل فيه أدران النفوس، وتدخل فيه النفوس إلى صيانة روحية ومعنوية، تستمد بها طاقة إيمانية ترتفع بها عن الحياة المادية، التي جعلت الإنسان عبدا لشهواته وملذاته، حتى صوَّر الكفار الغربيون السعادة أنها الحصول على أكبر قدر من المتع الجسدية، ويأتي رمضان ليؤكد أن معنى السعادة عند المسلم؛ إنما هي نوال رضوان الله تعالى الواحد الأحد، ولو أدى ذلك إلى الجوع والعطش والامتناع عن كل الشهوات.
إن رمضان هو شهر البشريات التي تطمئن الأمة بشواهد ومعالم رسمها المسلمون الأوائل في هذا الشهر المبارك فقد كانت فيه الفتوحات والانتصارات الكبرى، التي تؤكد أن رمضان لم يكن فقط امتناعاً عن الأكل والشرب، ولا مبررا للتكاسل والخمول، ولا التنافس على صناعة ما لذ وطاب من أنواع الطعام والشراب؛ إنما رمضان غرفة عمليات يتدرب فيها المسلم على القوة والثبات وعلى الطاعة والقربات، ومحطة يتوقف عندها المسلم ليعرف كم من مسافات الحياة قطع، وهل هي في طاعة الله، أم في معصيته؟
أدرك المسلمون الأوائل حقيقة رمضان فعمدوا على الاستفادة من أوقاته أقصى استفادة، فأعدوا أنفسهم وتسابقوا في الخيرات والطاعات؛ فتحدوا الصعاب متوكلين على الله فغزوا في سبيل الله، ودكوا الحصون، وأزالوا الحواجز، ليشق نور الإسلام طريقه فيعم كل العالم، ومما يؤكد ذلك أن أول رمضان صامه المسلمون في السنة الثانية للهجرة، أكرمهم الله بالنصر المؤزر في معركة بدر الكبرى التي كُسرت فيها شوكة مشركي مكة، ثم كان فتح مكة في 20 رمضان سنة 8هـ، الذي كان الضربة القاضية للكفر وجنوده، وتواصلت الأحداث العظيمة في رمضان ليسجل المسلمون انتصارا ساحقاً على الفرس في معركة البويب في 12 رمضان سنة 13هـ، وفي رمضان أيضاً فتحت الأندلس سنة 92هـ، وفيه فتحت عمورية بقيادة المعتصم في 17 رمضان سنة 223هـ، وكانت معركة عين جالوت المفصلية التي هَزَمَ المسلمون فيها التتارَ بأروع انتصار عرفه التاريخ في 25 رمضان سنة 658هــ. وهذا على سبيل المثال لا الحصر...
لا بد من تذكير المسلمين بهذه الأحداث العظيمة لتقوى الهمم، وتشتد العزائم، فيهبوا لنصرة دينهم وتطبيق شرع ربهم، غير عابئين بالصعاب، ولا يحسبون للضائقات أي حساب، لأنه مهما اشتدت الكربات، وادلهمت الخطوب، وضاقت السبل، فإن الله قريب يسمع ويرى، ولا يؤخر النصر، إلا لحكمة يعلمها هو، لذا وجب على المسلمين الثقة في ربهم سبحانه، والاستجابة لأمره ونهيه.
نذكر الأمة برمضان، وبما فيه من بشريات، لنؤكد لأمة الخير أن الله ينصر أولياءه ويظهر دينه، بغض النظر عن القوى المادية أو القدرة البشرية لعباده، سواء أكانوا في شبع أم جوع، وأن أمة محمد e، لا محالة ستخرج من هذه الضائقات التي تمر بها قوية عزيزة، والبشريات كثيرة، فقد انكشف حكام المسلمين وأخبار عمالتهم أزكمت الأنوف، وشواهد عجزهم وفشلهم في رعاية شؤون العباد، واضحة للعيان، لعدم حكمهم بما أنزل الله، الحكام الضالون المضلون؛ الذين حذر النبي عليه الصلاة والسلام منهم، كما روى الإمام أحمد في المسند، عن ثَوْبَانَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e «يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَلَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا أَوْ قَالَ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّين». رواه كذلك الطبراني في المعجم الأوسط، وفي سنن أبي داود، وابن ماجه، والسنن الكبرى للبيهقي، وصحيح ابن حبان، وغيرهم. مع ارتفاع الوعي واستيقاظ الأمة وتمييزها لصفوف الحق وأهله من الباطل وشيعته وهذا بلا شك مؤشر على قرب نصر الله، ونسأل الله أن يكون رمضان هذا العام إضافةأخرى لسلسلة الانتصارات العظيمة التي حققتها أمة الإسلام منذ فجر الإسلام الأول.
ومن البشريات أن الساحة اليوم خالية من أي معالجات للمشاكل الإنسانية، سوى أحكام الإسلام، والعالم كله يتوق لعدل الإسلام، ويتطلع للخلاص من ظلم الأنظمة الرأسمالية التي أفسدت على الناس حياتهم وأخلاقهم؛ فعم الشقاء كل شعوب العالم، فأصبحت الدول الرأسمالية تفرفر كالذبيح؛ لتشوه الإسلام، وتحارب حملته، مباشرة، وعبر عملائهم؛ من الحكام الظالمين وأجهزة أمنهم، لصد الناس عن الإسلام وأحكامه، وإقامة دولته الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
بلا شك إن مكرهم في بوار، فالخلافة حكم الله، ووعده، وبشرى رسوله عليه الصلاة والسلام، فإقامتها تعني إقامة كل شريعة الله تعالى، وتعني إعزاز المسلمين في الأرض، وتعني قهر الكفر وجنده في كل مكان؛ إذن الخلافة تعني القضية المصيرية للمسلمين في الأرض.
والله لا يخلف وعده، القوي العزيز الذي أنجز وعده للنبي عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام في دخول مكة فاتحين منتصرين، قال الله تعالى: ﴿لَّقَدْ صَدَقَ اللَّـهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّـهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 27]
وهو الله الذي وعد المسلمين في كل زمان ومكان، أنه سيستخلفهم في الأرض، وأنه سينصر من نصره، فعلى أمة الإسلام أن ترتفع إلى قمة الطاعة، فتعي أحكام دينها، وتتقيد بما أمرها الله به، دون أن يصرفها أعداء الأسلام وعملاؤهم؛ من الحكام والإعلاميين والمفكرين الذين سلطوا الإعلام أداة لإلهاء المسلمين ولتضييع أوقات الطاعة والقربات في هذا الشهر الكريم.
إن قضيتنا المصيرية هي تعبيد أنفسنا لله تعالى، ولن تتحقق العبودية المطلقة لله تعالى في شتى شؤون الحياة، إلا بإقامة دولة تطبق الإسلام، فتوحد الأمة، وتقطع حبال المستعمرين، وتستفيد من ثرواتها وخيراتها التي أصبحت نهباً للكافرين، ليعود للإسلام مجده وعزه، لذا وجب على أمة الإسلام أن تعمل مع أبنائها وتكمل شرط الخيرية فيها بإقامة هذه الدولة التي بشر بها النبي عليه الصلاة والسلام، لينجز الوعد وتتحقق البشرى، روى مسلم عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا...».
بقلم: الأستاذ محمد جامع أبو أيمن
مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع